بقلم: عبد الله السناوي
بأى نظر موضوعى إلى الصراعات الجارية بعد إطاحة «عمر البشير» من سلطة بقى على رأسها لثلاثة عقود لا يمكن إغفال حجم الدور الذى يلعبه الإرث السياسى السودانى فى سيناريوهات المستقبل المحتملة.
كل بلد محكوم بخبرة تاريخه والسجل السودانى حافل بانتفاضات حلقت وانقلابات تتابعت وحروب أهلية مزقت وصراعات على السلطة امتدت عبر العقود منذ استقلاله عام (1956).
السودان يجد نفسه الآن معلقا بين إرث ماضٍ يطل عليه من جديد وتطلع لمستقبل لم تستبين كامل حقائق قوته.
إلى أى حد يمكن لـ«الحراك الشعبى» تغيير معادلات السلطة وطبيعتها فى عمقها لا على سطحها، وأن يمضى بعيدا فى بناء دولة جديدة وفق الأصول الديمقراطية الحديثة؟
وإلى أى حد يمكن لـ«الانقلاب العسكرى»، الذى أطاح «البشير»، استيعاب حركة الغضب العام وخشيته من إعادة إنتاج النظام نفسه؟
ما حجم الصدام المحتمل.. وما التسويات الممكنة؟
الإجابات تقررها الحقائق على الأرض.
بقدر وضوح وتماسك الإرادة العامة فى طلب التغيير تفتح الدروب المغلقة إلى مستقبل جديد يتجاوز استبدال رجل بآخر إلى طبيعة الدولة نفسها.
لا يوجد سؤال واحد تنطوى عليه التطورات السودانية المتعاقبة والمثيرة لم يطرح من قبل.
لم يقدر للحكم المدنى الأول، الذى أعقب إعلان الاستقلال، أن يستمر لأكثر من عامين على خلفية صراعات حزبية وطائفية استدعت الانقلاب الأول عام (1958) بقيادة الفريق «إبراهيم عبود».
وقائع الانقلاب الأول جرت بإيعاز من رئيس الحكومة المدنية «عبدالله خليل» لقائد الجيش أن يستلم السلطة ــ حسب شهادات ووثائق سودانية ثابتة.
كان ذلك دليلا على هشاشة البنية السياسية التى أعقبت الاستقلال وغياب أية قواعد حديثة فى إدارة الشأن العام.
بعد ست سنوات تقوض حكم الفريق «عبود» بانتفاضة شعبية واستلمت السلطة حكومة انتقالية مدنية شكلتها جبهة «الهيئات».
كان ذلك عام (1964).
امتد الحكم المدنى الثانى لست سنوات أخرى انتهت بانقلاب عسكرى ثانٍ بقيادة العقيد «جعفر النميرى» عام (1969).
كان التخبط السياسى وتغيير الحكومات على فترات قصيرة متعاقبة أحد المحركات الرئيسية لانقلاب «نميرى»، الذى أزاح «الديمقراطية الثانية» بتحالف مع قوى سياسية يسارية وقومية قبل أن ينقض عليها وينقل دفة تحالفاته إلى التيارات الإسلامية.
كانت قمة المأساة انتقال حلفاء الأمس إلى الصدام المفتوح وإعدام رفاق سابقين على خلفية محاولة انقلاب فاشلة ضده عام (1971).
بعد ستة عشر عاما انقضى عهد «نميرى» بانتفاضة شعبية ثانية أفضت إلى انقلاب ثالث عام (1985) قاده وزير الدفاع «عبدالرحمن سوار الذهب»، الذى قرر من اللحظة الأولى اختصار المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة.
لم تنجح «الديمقراطية الثالثة» فى ترسيخ دولة القانون والمؤسسات وحل معضلات المجتمع السودانى بكل تنوعه العرقى واحتياجاته المعيشية.
بانقلاب رابع وصل العميد «عمر البشير» إلى السلطة عام (1989) برعاية وتخطيط وتنفيذ «الجبهة الإسلامية القومية» التى يتزعمها «حسن الترابى».
على عكس الانقلابات السابقة حاول الانقلاب الرابع إخفاء هويته، اعتقل «الترابى» للتمويه حتى تصورت السلطات فى مصر على عهد «حسنى مبارك» أن الانقلاب قريب منها فسارعت بتأييده!
بعد عشر سنوات أطاح «البشير» براعيه ونكل به لكنه حافظ على الهوية الأيديولوجية للنظام بقدر ما تسمح مصالحه.
بين الأسباب، التى سمحت بنجاح انقلاب «البشير»، قدر التخبط السياسى فى الحكومات التى تعاقبت فى مدى زمنى ضيق بأكثر مما هو طبيعى بين عامى (1985 ــ 1989).
فى المراوحة بين نظم حكم مدنية لم تستقر قواعدها ولا ترسخت أصولها الديمقراطية ولا أضفيت عليها نظرة حديثة ونظم عسكرية تعددت انقلاباتها فى أزمان مختلفة بتوجهات متناقضة وتكرر فشلها يتبدى حجم الأزمة السودانية الحالية.
تحت ظلال الماضى يجرى الآن الصراع على المستقبل.
هذه حقيقة لا يمكن نفيها، أو التقليل من أثرها وتداعياتها.
لم يكن الانقلاب الخامس الذى أطاح «البشير» مفاجئا لأحد فى السودان، أو خارجه، فقد تآكلت شرعيته وتفاقمت الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وسدت أية قنوات سياسية ولم يتخلف عن حكمه الطويل إلا بلد يائس، خسر ثلث أرضه بانفصال الجنوب واستهلكت طاقته وموارده وثقته فى مستقبله حروب أهلية أخرى أخطرها ما جرى فى دارفور من انتهاكات أفضت إلى ملاحقته من المحكمة الجنائية الدولية.
بالنظر إلى التاريخ السودانى فإن الانتفاضات تتبع الانقلابات.
لم يكن «الحراك» الذى زعزع لأربعة أشهر أركان حكمه نبتا شيطانيا، فهو تعبير عن طاقة حيوية السودان وأهله بشبابه ونسائه ومهنييه بأكثر من أية قوة سياسية تقليدية أو غير تقليدية.
قوة «الحراك» جاءت من خارج السياق، من الأقاليم قبل العاصمة، ومن الأنين الاجتماعى قبل النزوع السياسى.
بالوقت تبلورت قيادته فى «تجمع المهنيين» و«إعلان الحرية والتغيير».
بتلخيص ما فإن تعبير «اقتلاع النظام»، الذى انطوى عليه البيان الأول الذى تلاه نائب الرئيس ووزير دفاعه الفريق أول «عوض بن عوف»، يمس ما يتطلع إليه السودانيون لتغيير البيئة العامة كلها بالاقتلاع، لكنه وقف عند ظاهر الألفاظ ولم يمس طبيعة النظام.
بقدر الإحباط كان رد الحراك الشعبى إجماعيا، وتواصلت الاحتجاجات والاعتصامات حتى اضطر «بن عوف» إلى التنحى عن رئاسة المجلس العسكرى الانتقالى بعد (24) ساعة.
لا أحد يعرف بدقة حتى الآن: لماذا تأخر إعلان البيان الأول لأكثر من سبع ساعات، ولا حجم الصراعات الداخلية فى صفوف الجنرالات السودانيين.
فى بيان تنحيه أشار «بن عوف» إلى شروخ فى المؤسسة العسكرية يخشى عواقبها، وذلك يؤكد حجم التناقضات بين الضباط الأيديولوجيين الإسلاميين والضباط الوطنيين المحترفين.
كان صعود الفريق أول «عبدالفتاح البرهان» إلى رئاسة المجلس العسكرى الانتقالى والترحيب الشعبى الذى حاز هذا الصعود تعبيرا عن تفكيك يحدث فى مؤسسات القوة لما رسخه انقلاب «البشير» على مدى ثلاثين سنة.
التفاصيل ضرورية لاستكشاف المنحى الذى سوف يأخذه المستقبل السودانى.
السيناريو الأفضل دفع الحوادث إلى ما تبناه «عبدالرحمن سوار الذهب»، وهو ما انطوى عليه عمليا بيان أصدرته قيادة «قوات الدعم المباشر» قبل تنحى «بن عوف»، البيان بنصه ودعوته لاختصار المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة مدنية بأسرع وقت ممكن يعكس تلك الشروخ العميقة.
هناك نظرتان متضادتان لطبيعة السلطة تحكمان المشهد السودانى المتحرك، الذى ارتفعت معدلات ثقته فى مستقبله بعد التحول الدراماتيكى فى بنية القيادة العسكرية.
أولاهما ــ تنتمى إلى ما توفره القوة من خيارات وسياسات وإجراءات، وهذه يستحيل نجاحها بالنظر إلى قوة «الحراك» ومدى غضبه على «البيان الأول» وحجم الضغط الدولى والقارى المتوقع لنقل السلطة إلى حكومة مدنية بأقرب وقت ممكن.
ثانيتهما ــ تتطلع إلى تغيير كامل فى طبيعة النظام، وإنهاء هيمنة «الإخوان المسلمين» على مفاصل الدولة والانتقال إلى تجربة مدنية رابعة دون الوقوع فى أخطاء الماضى، وهذه مهمة ليست يسيره.