بقلم - عبد الله السناوي
كأن أجواء الحرب الباردة عادت.
فجأة اشتعلت أزمة حادة بين لندن وموسكو على خلفية تسميم العميل المزدوج الروسى «سيرجى سكريبال» وابنته بغاز أعصاب مخصص للأعمال العسكرية.
لندن أجرت اتصالات غير معلنة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، تقرر بمقتضاها تصعيد الأزمة إلى مستويات غير مسبوقة منذ نهاية تلك الحرب قبل نحو ثلاثة عقود.
أعلنت عقوبات اقتصادية وجمدت الاتصالات الثنائية وطردت دبلوماسيين وألغيت مشاركة أى وفود رسمية بريطانية فى كأس العالم لكرة القدم، الذى تستضيف موسكو منافساته.
يستلفت الانتباه ـ أولا ـ أن التصعيد بالعقوبات استبق استبيان كامل ظروف وملابسات الحادث، أو التوصل إلى أدلة تثبت تورط الاستخبارات الروسية فيه.
هناك فارق بين الاستنتاج والإثبات.
كل ما لدى جهات التحقيق البريطانية ترجيحات بالنظر إلى طبيعة الدور الذى لعبه العميل المزدوج والمستوى التقنى العالى للغاز المستخدم فى الحادث.
إحدى الفرضيات أن تكون موسكو فقدت سيطرتها على مخزونها الكيماوى.
تلك الفرضية يكاد يستحيل تصديقها، لكن ليس هناك ما يثبت الفرضية الأولى التى تصرفت على أساسها السلطات البريطانية.
يستلفت الانتباه ـ ثانيا ـ أن مستوى التعبئة داخل الحلفاء الغربيين ضد «العدو الروسى المشترك» يكاد يقارب ما كان جاريا أثناء سنوات الحرب الباردة، رغم أن مقوماتها الأيديولوجية والاستراتيجية والعسكرية تقوضت كليا بعد سقوط سور برلين عام (١٩٨٩) وانهيار الاتحاد السوفيتى السابق والمنظومة الاشتراكية بما فيها حلف «وارسو»، الذى كان يواجه حلف «الناتو».
كما أن مقاطعة الوفود الرسمية البريطانية للمونديال تكاد تستوحى بصورة ما مقاطعة الدول الغربية كلها لدورة الألعاب الأولمبية التى استضافتها موسكو (١٩٨٠) على خلفية تدخلها العسكرى فى أفغانستان.
فى ذلك الوقت دخلت الاستخبارات الأمريكية على الخط الأفغانى لاصطياد الاتحاد السوفييتى فى المستنقع الذى دخل فيه، عبأت قيادات دول حليفة فى المنطقة وجندت «مجاهدين» ودربت على السلاح ومولت باسم «الدفاع عن الإسلام».
هكذا ولدت جماعات العنف والإرهاب ذات الطابع العالمى فوق جبال أفغانستان، وأخطرها «القاعدة» التى رفعت السلاح ضد حلفائها السابقين وخرجت من عباءتها تنظيمات أكثر عنفا مثل «داعش» فى سوريا والعراق وليبيا واليمن وسيناء.
يستلفت الانتباه ـ ثالثا ـ قدر التوظيف السياسى للحادث، الذى لا يمكن غض الطرف عنه بالنسبة لأية دولة تحترم حرمة أراضيها.
باليقين هناك ضيق غربى معلن ومكتوم من ارتفاع منسوب الدور الروسى فى الشرق الأوسط، خاصة وبالتحديد فى الأزمة السورية.
لا يصعب استنتاج أن بين أهداف ذلك التصعيد غير المسبوق إحراج الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» فى دعمه المفتوح للرئيس السورى «بشار الأسد»، فيما هو موجه إليه من اتهامات غربية باستخدام «الأسلحة الكيماوية» ضد الجماعات المسلحة التى تناهضه.
إذا كان «بوتين» تحت الاتهام باستخدام غاز كيماوى للانتقام من عميل روسى سابق، فإن صدقيته تصبح محل شك عميق بأقل تقدير سياسى، وهذا مطلوب بذاته.
يستلفت الانتباه ـ رابعا ـ أن التوظيف السياسى للحادث يدخل فى عمق الأزمة الداخلية البريطانية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى وصعوبة المفاوضات التى أعقبته.
هناك قطاع كبير فى الرأى العام البريطانى صوت لصالح البقاء ويرى أن التداعيات أثبتت صحة ما ارتآه.
وهناك قطاع كبير آخر تستبد به نعرة قومية متطرفة يطلب التصعيد مع العدو التقليدى القديم تأكيدا على صحة ما ذهب إليه من طلاق مع الاتحاد الأوروبى.
أرجو أن نستعيد أجواء الاستفتاء ومدى عصبيتها، التى وصلت إلى اغتيال نائبة عمالية بسلاح يمينى متطرف يرى فى الاتحاد الأوروبى شرا مطلقا.
روسيا ليست الاتحاد السوفييتى، لكنها تمثل لذلك النوع من التفكير عدوا بذات قدر الاتحاد الأوروبى، فكلاهما ضد المصالح والهوية البريطانية.
وجه التناقض ـ هنا ـ أن النزعة اليمينية المتطرفة التى تعادى أوروبا تطلب غطاءها السياسى فى الأزمة مع روسيا.
التوظيف السياسى يمتد لمحاولة إعادة بناء صورة رئيسة الحكومة «تريزا ماى» باعتبارها «سيدة حديدية» جديدة كـ«مارجريت تاتشر» دون أن يكون بوسع معارضيها العماليين أن يشككوا فى دوافعها أمام رأى عام غاضب ومستفز مما تعرض له من إهانة الحادث.
ويستلفت الانتباه ـ خامسا ـ أن الأزمة تدخل فى سياق عام من صداع أوروبى مزمن يتلازم فيه صعود اليمين المتطرف باسم التفوق العرقى وتغول جماعات الإرهاب باسم الإسلام.
كلاهما يتغذى على الآخر بصورة تكاد تهدد ما استقرت عليه المجتمعات الأوروبية من قيم حديثة دفعت أثمانها من دمها حروبا وثورات لمغادرة إرث القرون الوسطى.
كانت الانتخابات الإيطالية جرس إنذار جديد بصعود اليمين المتطرف على نحو لا يمكن إغفال تداعياته على توجهات الائتلاف الحكومى، أو بنية التشريعات، ومستقبل وجودها فى الاتحاد الأوروبى.
وقد مثلت الانتخابات الألمانية، حيث قيادة الاتحاد الأوروبى، جرس إنذار أكثر دويا، حيث تمكن حزب «البديل» اليمينى المتطرف من دخول البرلمان لأول مرة بـ(٩٢) مقعدا، وبالكاد نجحت المستشارة «أنجيلا ميركل» من تشكيل حكومة ائتلافية لمنع مشاركته فى الحكم.
وكان الثمن السياسى باهظا، فقد اضطرت لتقديم تنازلات جوهرية فى قضايا اللاجئين والتزمت قيودا على استقبالهم.
باتساع أوروبا أجراس الإنذار تدوى هنا وهناك، فكراهية الأجانب تلازم صعود اليمين المتطرف، وطلب تقليل الحقوق الاجتماعية والصحية والتعليمية للاجئين يرادف طلب الخروج من الاتحاد الأوروبى باستفتاءات تشبه ما جرى فى لندن.
هذا ما يحدث الآن فى فرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا والمجر والسويد وبولندا ودول أوروبية أخرى بنفس الخطاب ودرجة الإزعاج السياسى.
كلما زادت معدلات العنف والإرهاب، التى يرتكبها عرب ومسلمون يحملون جنسيات أوروبية، تفاقمت حدة التطرف المضاد.
أرجو أن نلتفت إلى أنه قد تكون هناك شبهات عنصرية وراء مقتل الطالبة المصرية «مريم عبدالسلام» فى مدينة «نوتنجهام» بالضرب المبرح من عشر فتيات بريطانيات، دون أن تبدى السلطات اهتماما يتسق مع حجم الجريمة، التى التقطت وقائعها الكاميرا.
وكلما ارتفعت أوزان اليمين المتطرف فى صنع القرار الأوروبى فإن المقبل أسوأ على الإقليم المنكوب.
بأى قراءة تتسع نظرتها لكامل خلفيات وأبعاد الأزمة المتفاقمة بين لندن وموسكو، فإنها لا يمكن أن تنعزل عن ذلك الصداع فى رأس أوروبا، كما أنها ليست بعيدة عما يحدث ـ هنا ـ فى الإقليم.
نقلا عن الشروق القاهرية