بقلم - عبد الله السناوي
هو شخصية فريدة بتكوينها السياسى والإنسانى ومدى اتساقها مع ما تعتقد فيه من رؤى وخيارات.
بالتكوين الأساسى فإنه «يسارى» و«صوفى» بنفس اللحظة، حارب فى فلسطين وشارك بتأسيس «الضباط الأحرار»، اختلف مع «جمال عبدالناصر» فيما يعرف بـ«أزمة مارس» (١٩٥٤)، لكنه دافع عن تجربته بعد رحيله، عارض «الانفتاح الاقتصادى» (١٩٧٤) ودعّم انتفاضة «الخبز» (١٩٧٧) وناهض اتفاقيتى «كامب ديفيد» (١٩٧٨) وقاوم التطبيع مع إسرائيل من موقعه فى رئاسة حزب «التجمع»، ووصف نفسه فى ذروة الصدام مع نظام «أنور السادات» فى مؤتمر مفتوح: «أنا ناصرى».
لا يمكن تلخيص «خالد محيى الدين»، آخر من رحل من قيادات ثورة «يوليو»، فى مشهد واحد وسؤال واحد.
مع ذلك فإن سؤال «أزمة مارس» طرح نفسه مجددا عند رحيله، كأنه قصته كلها.
قيل إنها فرصة للديمقراطية أجهضت، أو ربيع مصرى بددته رياح خماسين.
لم يكن ذلك التوصيف صحيحًا ولا دقيقًا بالنظر إلى سياق وظروف وطبيعة الأزمة.
أرجو تذكر أن اللواء «نجيب» وافق أغلبية مجلس قيادة الثورة على إعدام «خميس» و«البقرى» بغير حق، فيما عارضه «عبدالناصر» و«خالد» و«يوسف صديق»، ووضع توقيعه على قرارات اعتقال بعضها بغير ضرورة وأصدر باسمه قانون إلغاء الأحزاب بغير تردد، ووضع «مصطفى النحاس» زعيم الوفد قيد الإقامة الجبرية، وترأس «هيئة التحرير» التنظيم الواحد بغير ممانعة.
لم تنشأ ذرائع الديمقراطية فى إدارة صراع السلطة إلا بعد أن جرى تهميشه والشروع فى عزله.
بدأت الأزمة باستقالة اللواء «نجيب» بتحريض من «سليمان حافظ» حتى «توضع الأمور فى نصابها».
تسرع مجلس القيادة فى قبولها، وكان ذلك تقديرًا عصبيًا أربك الوضع العام حتى اضطرته تداعياته إلى إعلان عودة «نجيب» إلى منصبه.
كانت أزمة مارس صدامًا محتمًا بين رجلين وتوجهين، فـ«نجيب» واجهة الثورة، التى ضمنت نجاحها بالنظر إلى رتبته الكبيرة والشعبية التى حازها، وهو عسكرى قبل أن يكون سياسيًا ونظرته العامة محافظة، و«عبدالناصر» قائد «الضباط الأحرار»، وهو سياسى قبل أن يكون عسكريًا ونزعته ثورية رغم أنها لم تكن قد استكملت ملامحها.
لا يمكن أن تحسب بعض القوى التى أيدت «نجيب» على أى توجه ديمقراطى مثل جماعة «الإخوان المسلمين»، التى استثنتها الثورة ــ لأسباب تكتيكية ــ من قرار حل الأحزاب دون أن تعترض على ذلك الحل، بل أيدته فى بيان معلن.
بأثر تمرد ضباط سلاح الفرسان، و«خالد محيى الدين» على رأسه، أعلن مجلس قيادة الثورة قرارات (٥) مارس (١٩٥٤)، التى تقضى بالعودة إلى الحياة النيابية وانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستورًا جديدًا وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف.
لم تشر تلك القرارات إلى عودة الأحزاب، بل استبعدتها من انتخابات الجمعية التأسيسية، كما تجنب التمرد العسكرى فى سلاح الفرسان أى إشارة إلى الأحزاب وعودتها خشية خسارة الجمهور العام، الذى فقد ثقته فيها.
ثم صدرت قرارات أخرى فى (٢٥) مارس تقضى بإعادة الحياة النيابية، وإقامة جمهورية برلمانية، وعودة اللواء «نجيب» إلى رئاسة الجمهورية، وتشكيل حكومة انتقالية لمدة ستة أشهر برئاسة «خالد محيى الدين» تجرى انتخابات الجمعية التأسيسية.
وقد أضاف «عبدالناصر» إلى تلك القرارات فقرة واحدة تعلن «حل» مجلس قيادة الثورة وعودة «الضباط الأحرار» إلى وحداتهم العسكرية.
كانت تلك الفقرة ــ مقصودة أو غير مقصودة ــ نقطة انقلاب حاسمة فى مسار أزمة مارس، فقد استفزت أسلحة الجيش بأغلب قطاعاته وحسم الأمر نهائيًا.
فى شهادة لـ«خالد محيى الدين» عن الأخطاء التى ارتكبت وأفضت إلى هزيمة المعسكر الذى يقف فيه: «الإيحاء بعودة الأحزاب القديمة على حساب الثورة دون أن يكون هناك إيضاح بأن المطلوب ديمقراطية جديدة مغايرة تمامًا لما كان قبل يوليو» و«الهجوم على الجيش ــ كجيش ــ بما أثار حفيظة الضباط ودعاهم للتكتل خلف جمال عبدالناصر».
بنظرة إلى ما كان يجرى داخل الجيش من اعتصامات واحتجاجات على استئثار مجلس القيادة بكل السلطات، فإنه موضوع سلطة لا قضية ديمقراطية.
حسب ما هو ثابت تراجع الضبط والربط العسكريان، ارتفعت أصوات قبل تفاقم الأزمة داخل سلاح المدفعية تدعو إلى انتخاب القيادة بالتصويت داخل الجيش، جرت اعتقالات استفزت رفاق سلاح، وبدا المشهد كله موحيًا بانقلابات عسكرية محتملة شرع بعضها فى الحركة.
كان السيناريو الأخطر انجراف الجيش إلى اقتتالات داخلية.
بحكم طبيعة تكوين «الضباط الأحرار» لم تندرج عضويته فى رؤية سياسية وفكرية واحدة باستثناء مبادئ عامة تصلح للتجنيد والضم، لكنها لا تفى بمواجهة احتياجات إدارة الدولة على نحو يتسق مع طلب التغيير ولا طبيعته ومداه.
هكذا تشققت صفوف بدت موحدة ونشأت صراعات كانت مؤجلة.
لم تكن قيادة التنظيم مرشحة لإدارة كفؤة وسادتها حالة ارتباك فادحة باستثناء «جمال عبدالناصر»، الذى أدار بثبات أعصاب الأزمة، قبل أن يدخل على خطها الصف الثانى من «الضباط الأحرار» بوازع الولاء لمؤسس التنظيم دون أن يطلب منهم، أو يوحى إليهم بأى تصرف.
حوصر سلاح الفرسان وحلقت طائرات حربية فوقه ومنع إذاعة بيان باسم مجلس قيادة الثورة يعلن حله، وجرى توقيف اللواء «نجيب» وحسم الصراع بقوة السلاح، لكنه لا يجب أن يغيب عن الذاكرة أنه سلاح مقابل سلاح.
وفق الوثائق المتاحة الآن كان رئيس الوزراء البريطانى «ونستون تشرشل» يتابع باهتمام ما يجرى فى مصر، ويسأل عن إحياء الخطة «روديو»، التى وضعت قواتها تحت التأهب والاستعداد للتدخل باحتلال الدلتا وصولًا إلى القاهرة.
أى قراءة لأزمة مارس خارج ظروفها وسياقها تهاويم فى الفضاء.
الأكثر إثارة فى القصة كلها أن «كمال الدين رفعت» الرجل الثانى فى تأسيس حزب «التجمع» بجوار «خالد محيى الدين» كان على رأس الصف الثانى من «الضباط الأحرار»، الذين حسموا صراع السلطة لصالح «جمال عبدالناصر».
لم يمنع اختلاف موقع الرجلين الكبيرين فى «أزمة مارس» أن يجتمعا مرة أخرى للدفاع عن ثورة «يوليو» وخياراتها الرئيسية.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع