بقوة الحقائق تقوضت أية احتمالات تسمح بمرور «صفقة القرن»، التى بمقتضاها يحصل الإسرائيليون على كل شىء ولا يحصل الفلسطينيون على أى شىء.
طبيعة الصفقة حكمت عليها بالفشل الذريع.
كان مطلوبا أن يسلم الفلسطينيون بأن القدس عاصمة أبدية وموحدة للدولة العبرية، وهذه مسألة دونها حمامات دم لا يعرف أحد آخرها، فللقدس رمزيتها الدينية التى يستحيل تجاوزها.
كان مطلوبا نوعا من الإقرار بضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، وهذه مسألة دونها صدامات حياة أو موت لأكثر من (٢.٥) مليون فلسطينى يعيشون فى الضفة الغربية.
كان مطلوبا شطب حق العودة المنصوص عليه فى القرارات الدولية، وهذه مسألة لا يملك أحد التصرف فيها بالنظر إلى أن هناك كتلة فلسطينية كبيرة تعيش فى المخيمات ومناطق اللجوء، ويستحيل تصور أن تقطع صلاتها بجذورها فى الأرض المحتلة.
كان مطلوبا ربط أجزاء من شمال سيناء بقطاع غزة كأنه مشرط جراحى يتلاعب بالجغرافيا السياسية التاريخية لمقتضى المصالح الأمنية الإسرائيلية وحدها.
لم يكن أحد فى القاهرة مستعدا لمجرد الاستماع إلى ذلك الاقتراح، حسب موقع «ديبكا» الإسرائيلى.
ثم كان مطلوبا كاقتراح بديل إنشاء مناطق صناعية فى شمال سيناء لتوفير الوظائف لسكان غزة وميناء بحرى لانتقال مواطنى القطاع منه وإليه تحت إشراف قوات الاحتلال، وانتهى أمره إلى نفس الفشل.
تكاد تتلخص «صفقة القرن» فى خلق الحقائق على الأرض بالقوة واستبعاد أية مرجعيات دولية، أو جداول زمنية، مقابل وعود بتحسين شروط الحياة فى قطاع غزة المحاصر وفصل مصيره عن القضية الفلسطينية.
استبقت الوعود ضغوط اقتصادية ممنهجة لجعل الحياة شبه مستحيلة مثل وقف المساهمات المالية الأمريكية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، وتعليق المساعدات المالية التى تقدم للسلطة الفلسطينية بموجب قانون «تايلور فورس»، الذى يمنع تقديم أية مساعدات يمكن أن تستخدم فى دفع رواتب الأسرى ومنفذى العمليات.
فى نفس التوقيت جرت عمليات قصف متواصلة لمواقع فى غزة واستخدم الحد الأقصى من العنف المفرط والتقتيل المقصود ضد «مسيرات العودة» ومتظاهريها السلميين عند السياج العازل مع إسرائيل.
كان ذلك تعبيرا عن همجية القوة، التى تطلب الإذعان الكامل، وتهيئة البيئة العامة الفلسطينية لتقبل «صفقة القرن» بتنازلاتها المجحفة بكل حق إنسانى، أو قانونى، أو تاريخى.
بقدر الاستفزاز العنصرى تبدت قوة المقاومة الفلسطينية.
البطل الحقيقى فى إجهاض «صفقة القرن» هو المواطن الفلسطينى داخل الأرض المحتلة.
هو الذى تحرك وانتفض فى القدس المحتلة مرة بعد أخرى، ألهمت صوره تعاطفا دوليا، ودفع فواتير دم باهظة فى مواجهاته بالصدور العارية أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
وهو الذى وضع على الأرض الخطوط الفلسطينية الحمراء أمام كل الفصائل، وحركته سبقتها فى كثير من المواجهات.
ليس بوسع أحد، أيا كان موقعه، أن يتنازل حيث يعرض شعبه المقاومة، وإلا فإنه انتحار سياسى.
يستلفت الانتباه هنا ما قاله رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس»، عندما طرحت «صفقة القرن» فى الكواليس الدبلوماسية والتسريبات الإسرائيلية: «لن أنهى حياتى بخيانة».
كان ذلك توصيفا دقيقا لحقائق الموقف فى الشارع الفلسطينى.
بذات الوقت ليس بوسع أحد فى العالم العربى، أيا كان حجمه، أن يتفاوض باسم الفلسطينيين.
هكذا تأكد أن مفتاح الموقف فى الشارع الفلسطينى، وليس فى أى مكان آخر.
راهن المخطط الرئيسى لـ«صفقة القرن» على ضغوط عربية تعمل على تليين موقف «محمود عباس» لقبولها ووضع توقيعه عليها.
لم يكن بوسع السلطة فى رام الله، ولا حماس فى غزة، ولا أى طرف فلسطينى ثالث أو رابع، أن تقبل بما هو معروض عليها مهما تعاظمت الضغوط من هنا، أو هناك.
ولا كان بوسع أى طرف عربى أن يمضى بعيدا فى التطبيع المجانى مع إسرائيل اقتصاديا واستراتيجيا واستخباراتيا دون غطاء سياسى ما، أو أن يقفز فوق المبادرة العربية التى تقضى بالتطبيع الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة منذ عام (١٩٦٧) بلا أثمان باهظة.
بقوة الحقائق كان فشل «صفقة القرن» مدويا.
لا يعنى ذلك توقف الكلام عنها، أو محاولة إدخال تعديلات عليها تعطيها مسحة سلام ما.
غير أن غطرسة القوة تكفلت بإعلان الفشل المسبق لأى حديث عن مشروع سلام.
كانت الضربة الأخيرة «قانون القومية»، الذى صدر بأغلبية تصويت الكنيست.
القانون عنصرى ومعاد للديمقراطية ولأية احتمالات لبناء «دولة كل مواطنيها» داخل الخط الأخضر.
يضفى صفة قانونية على التهويد شاملا القدس، يعتبر ضم المستوطنات قيمة وطنية، ويمنح اليهود وحدهم حق تقرير المصير فى دولة إسرائيل والهجرة إليها.
لم يكن إصدار هذا القانون إفسادا لـ«صفقة القرن»، بل هو جوهرها.
يشبه «قانون القومية» نظام الفصل العنصرى، الذى كان قائما فى جنوب إفريقيا.
عندما توضع الحقائق فى حجمها الطبيعى دون تدليس عليها فإننا أمام ظاهرة عنصرية متفاقمة لا مثيل لها فى العالم الآن.
الكلام عن السلام محض أوهام إلا أن يكون مقصودا به سحق الطرف الآخر ونزع أية إنسانية عنه.
بقوة الحقائق يستحيل أن تفضى العنصرية، مهما بالغت واستبدت وتوحشت، إلى كسب أية معركة أخلاقية، أو تمرير أية صفقة سياسية.
أول عامل فلسطينى يصون القضية من التبديد وحدة المشاعر العامة وإدراك أن العذاب واحد والمصير واحد.
وثانى عامل يحفظ للقضية مستقبلها، ولا تملك إسرائيل منعه وصده، كتلته البشرية داخل الأرض المحتلة.
حسب جهاز الإحصاء الفلسطينى تضاعف عدد الفلسطينيين نحو (٩) مرات منذ مايو (١٩٤٨) إلى مايو (٢٠١٦).
وحسب تقديرات أخرى فإن أعدادهم على الأرض بكامل التراب الفلسطينى التاريخى ربما يكون فى حدود (٥.٦) مليون نسمة.
إذا ما ضمت إسرائيل الأراضى المحتلة فإن معضلتها الديموجرافية لا حل لها.
التمييز العنصرى أحد المخارج، لكنه ليس بالسهولة التى يتصورها غلاة الصهيونية، الذين صاغوا «قانون القومية»، والتهجير الجماعى القسرى شبه مستحيل.
بافتراض أن إسرائيل اضطرت، فى ظروف معينة، إلى دمج الفلسطينيين فى بنيتها، فإن ذلك ينهى يهوديتها ويجعل من حكم الأغلبية العربية مسألة وقت.
كل الاحتمالات والسيناريوهات تؤكد عدم قدرة إسرائيل على البقاء، بينما نحن نعطيها بالعجز والتخاذل أسباب القوة.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع