بالتعريف الدستورى فإن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام «مسئول عن ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها…».
لا من صلاحياته إصدار قرارات حظر نشر، فهذا حق حصرى للنيابة العامة دون غيرها.
ولا من مهامه فرض رقابة على الصحف، فهذا محظور بقوة الدستور.
لا يوجد تسويغ واحد دستورى، أو قانونى، أو مهنى، أو سياسى، لقراره حظر النشر فى التجاوزات الفادحة المنسوبة إلى مستشفى (٥٧٣٥٧) لعلاج الأطفال المصابين بمرض السرطان.
بنص قانون المجلس فإن أول أهدافه «حماية حق المواطن فى التمتع بإعلام وصحافة حرة ونزيهة وعلى قدر رفيع من المهنية وفق معايير الجودة الدولية…».
يصعب الزعم بأن ما نشر عن تجاوزات مستشفى أنشئ بأموال التبرعات والهبات والمنح، بقدر ما هو متوافر من وثائق ومستندات وشهادات يخرج عن أى معايير دولية معتمدة، ولا عن طبيعة التحقيقات الاستقصائية، التى تعد وفق نفس المعايير واحدة من أهم فنون العمل الصحافى فى العالم.
بقدر ما ينشر فى أية صحيفة من تحقيقات استقصائية تلم بكل جوانب الملف الذى تبحثه، وما خلفه من أسرار وخفايا تدخل فى شواغل الرأى العام تكتسب صدقيتها واحترامها وترتفع معدلات توزيعها.
لا بد أن نطرح على أنفسنا سؤالا لا مفر منه: لماذا انخفض توزيع الصحافة المصرية على هذا النحو المريع؟
أحد الأسباب الرئيسية أن القارئ لا يجد نفسه فيما تنشره ولا ما يدفعه إلى شرائها.
الصحافة مهنة حرية وبحث واستقصاء وإخبار وتداول للآراء وقصص مدققة تبصر القارئ بالحقائق والخلفيات.
إذا تقوضت طبيعتها فإنه حكم عليها بالإعدام الأدبى، أو الدفن فى مقابر الصدقة.
هذا ما يعرفه بالضرورة كل صحافى، لا نقاش فيه ولا جدال حوله.
عندما يمتنع عن الصحافة ممارسة واجبها فى التأكد من سلامة التصرفات المالية فى مؤسسات أهلية بعينها بحجة أو أخرى، فإن المهنة تتضرر والظلال تخيم على المشهد الصحافى والسياسى قبل أن تشرع أية جهة تحقيق فى النظر بالملف وتجاوزاته.
ما الذى يمكن أن يستنتجه أى مواطن عادى من صدور قرار حظر النشر، من جهة غير النيابة العامة، إلا أن يكون محاولة لمنع المساءلة والتكتيم على أية مخالفات مالية وإدارية؟
ذلك الاستنتاج له تداعيات مدمرة على ثقافة العمل الخيرى وما يتلقاه هذا المستشفى وغيره من تبرعات.
الناس تتبرع بدواعى الثقة أن أموالها تصرف فى أعمال خير، تعالج مريضا أو تنجد محتاجا، لا فى أى أوجه أخرى عليها تساؤلات موثقة تنتظر تحقيقا لا حظرا للنشر.
بكلام آخر قرار حظر النشر أضر بالعمل الخيرى ولم يفده، كما أضر بصورة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كما لم يحدث من قبل، وأضر بسمعة مؤسسات الدولة ومدى التزامها بمكافحة الفساد أيا كان المتورطون فيه.
كانت فلسفة إنشاء «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» فى دستور (٢٠١٤) بضمانات استقلاله الفنى والمالى والإدارى، تأسيس نظام إعلامى جديد يؤكد الحريات الصحافية والإعلامية ويمنع التغول عليها، ينسخ الماضى ويؤسس للمستقبل.
لم يكن ذلك تحليقا فى الأمانى بقدر ما كان سعيا لبناء منظومة حريات عامة تكفل حرية الاعتقاد وحرية الفكر والرأى وحرية الإبداع الفنى والأدبى وحرية البحث العلمى.
بأية نظرة موضوعية فإن قدر ما هو متاح من حريات صحافية يعكس أحوال الحريات العامة الأخرى.
هذا وجه رئيسى للأزمة الكامنة فى قرار حظر النشر.
حاول المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أن يؤسس قراره على بند فى قانونه، الذى يحكم عمله، يجيز «منع نشر، أو بث المادة الصحافية، أو الإعلامية لفترة محددة أو بصفة دائمة» كأحد «الجزاءات والتدابير التى يجوز توقيعها حال الإخلال بهذا القانون».
إذا صح تأويل ذلك البند على أنه يجيز للمجلس الأعلى إصدار قرارات حظر نشر، فهذا تغول على النيابة العامة وأدوارها المقررة دستوريا وقانونيا لا يصح ولا يجوز، ويطعن عليه بعدم الدستورية.
وإذا صح اعتباره تسويغا لنوع من الرقابة على ما ينشر أو لا ينشر، فإنه مطعون عليه مرة أخرى بعدم الدستورية.
حسب نص المادة (٧١) من الدستور: «يحظر بأى وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية، أو مصادرتها، أو وقفها، أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها فى زمن الحرب، أو التعبئة العامة».
لسنا فى حالة حرب أو تعبئة عامة تقتضيها ظروف قاهرة كتفشى الأوبئة فى البلاد حتى تفرض بصورة ضمنية رقابة على الصحف.
بافتراض أن ظروفا قاهرة حتمت بضروراتها اللجوء إلى هذه الرخصة الدستورية، فإن فرض الرقابة يدخل فى اختصاص جهات أخرى فى الدولة.
ثم أين الإخلال القانونى فى استقصاء حقيقة ما يجرى فى مستشفى خيرى من تجاوزات تتعلق بأوجه صرف أموال التبرعات، إذا كانت المستندات تتحدث وتثبت؟!
الكلام عن أنه صرح طبى عالمى يتعين حمايته من أى انتقادات تؤثر على تدفق التبرعات اللازمة لممارسة دوره، يفتقد إلى أى منطق يمكن تقبله.
مما يحفظ الصروح الطبية، أو غير الطبية، القائمة على التبرعات العامة أن تتوفر فيها نزاهة التصرفات المالية، وإلا فإنه ترخيص بالتجاوز دون رقيب وإضفاء حماية بلا حساب.
والكلام عن أن الأمر أفلت إلى التشاتم بين أطراف الأزمة تفسيرا للقرار المستغرب، فإن ذلك لم يحدث على صفحات الجرائد.
بالمعايير المهنية والأخلاقية، التى تدخل فى صلب مهام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فمن واجبه أن يرصد أى تجاوز ويتخذ بشأنه ما يتسق مع صلاحياته دون تزيد، مثل إصدار قرار يحظر النشر فى الملف كله.
هناك من استقصى بقدر ما يستطيع ومن لم يجب على أى سؤال.
الأسئلة ما زالت معلقة فى الفضاء العام والضرر، الذى أحدثه قرار حظر النشر من جهة لا تملك الحق فيه، يصعب تداركه ما لم يحال الأمر كله إلى جهات التحقيق لتقول كلمتها الفصل.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع