لم يكن «أشرف مروان» أهم وأخطر من عملوا مع الموساد، ولا «الجاسوس المصرى الذى أنقذ إسرائيل» ـ كما تقول رواية «الملاك» التى تحولت إلى شريط سينمائى يبدأ عرضه بعد أسابيع على الشبكة العنكبوتية واصلا إلى كل بيت.
بما هو مؤكد داخل الموساد نفسه فإن أهم وأخطر جواسيسه «إلياهو كوهين»، الذى جرت زراعته فى الأرجنتين كرجل أعمال سورى مهاجر توافرت له ثروة طائلة تحت اسم «كامل أمين ثابت» قبل أن ينتقل إلى دمشق صديقا مقربا لرئيسها فى ستينيات القرن الماضى الفريق «أمين الحافظ».
عاين «كوهين» المواقع العسكرية السورية بصحبة الرئيس، واطلع على أدق الأسرار والخفايا بفائض الثقة فيه، قبل أن تكشفه المخابرات المصرية وتدفع به إلى مشنقة فى ميدان دمشقى.
بجدية المتابعة والاستقصاء توصلت القاهرة إلى حقيقة الرجل الغامض الذى يقف بصورة شبه دائمة فى أقرب نقطة من الرئيس السورى.
لم يكن «أمين الحافظ» قادرا على استيعاب الصدمة، زار صديقه الحميم فى السجن العسكرى ليتأكد بنفسه، سأله: من أنت؟ وكانت الحقيقة فوق أعتى كوابيسه.
تكاد تجربة «إلياهو كوهين» فى سوريا أن تكون نسخة مشابهة لقصة «رفعت الجمال» فى المجتمع الإسرائيلى.
فى توقيت متقارب صنع لكل منهما تاريخ، «الجمال» كيهودى مطارد يعتنق الفكر الصهيونى وينتسب لعائلة لقت مصرعها فى المعسكرات النازية توظيفا لموهبته فى التقمص وإتقان أكثر من لغة أجنبية، و«كوهين» كرجل أعمال سورى مهاجر توظيفا لتمثله بحكم أصول أسرته الحلبية ثقافة أهل الشام رغم أنه قد ولد فى الإسكندرية.
حتى الآن يعتبر «إلياهو كوهين» بطلا إسرائيليا، يطلق اسمه على شوارع وميادين وتنصب له تماثيل ولا تكف الدولة العبرية كلما أتيحت فرصة أمامها عن المطالبة باستعادة رفاته.
وبما هو مؤكد فإن إسرائيل لم تأخذ بالجدية اللازمة المعلومات الخطيرة التى تقول إنها حصلت عليها من «أشرف مروان» عن موعد حرب أكتوبر قبل اندلاع عملياتها.
كان الغرور بالغا و«التقصير» مريعا ـ حسب «لجنة اجرانات»، التى حققت واستقصت ضمن عملها أسباب الفشل الإسرائيلى فى توقع الحرب رغم المعلومات التى توفرت لها من جاسوس لم تفصح عن اسمه فى ذلك الوقت.
الشريط السينمائى استثمار سياسى واستخباراتى فى قصة تتوافر فيها كل عناصر الإثارة، فـ«الملاك» صهر الرئيس «جمال عبدالناصر» وأقرب معاونى خلفه الرئيس «أنور السادات»، حيث عمل معه سكرتيرا للمعلومات.
يريد ذلك الشريط السينمائى أن يقول ـ بواسطة المؤثرات الدرامية ـ إن الموساد قادر على الوصول إلى قلب القرار السياسى فى مصر والعالم العربى، يطلع على أسراره وخفاياه ويعرف توجهاته وتحركاته.
هذه محض أسطورة سقطت لمرات عديدة فى مواجهات مفتوحة مع المخابرات المصرية عند احتدام الصراع على مصائر المنطقة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.
بذات القدر سقطت أسطورة أن جيش الدفاع الإسرائيلى لا يقهر فى حربى الاستنزاف وأكتوبر، كما فى لبنان.
لا يلخص تورط رجل ما فى عمل استخباراتى ضد مصلحة بلاده فى لحظة تقرير مصير قصة الصراع.
قواعد اللعبة تكاد تتلخص فى كيفية اختراق حصون عدوك وتقليل مستوى الاختراقات التى قد تحدث لك.
القضية ليست إنكار واقعة الاختراق التى حدثت، ولا مدى الضرر الذى ترتب عليها بقدر ما هى كشف الحقيقة، أو أن تكون هناك رواية مصرية متماسكة لما جرى فعلا.
المشكلة أنه لا توجد مثل هذه الرواية، ولا أنشئت لجنة تحقيق مستقلة تبحث وتستقصى وتجيب على الأسئلة المعلقة.
دون عناء كبير يمكن رصد تناقضات الروايات الإسرائيلية التى نشرت عن قصة «أشرف مروان» ـ الطريقة التى جند بها وتوقيتها والمحاضر السرية التى سربها.
فى الروايات المتناقضة ظلال نزاعات موروثة بين مدير الاستخبارات العسكرية «إيلى زاعيرا» ومدير جهاز الموساد «تسيفى زامير»، أو بين الجهازين الاستخباريين بصورة عامة.
كل جهاز يحاول أن يعظم من دوره ويكيف الوقائع لمقتضى تخفيض دور الجهاز الآخر.
ذلك يستدعى قراءة متأنية ومضاهاة الروايات لاكتشاف ثغراتها والمقحم فيها لأسباب سياسية ودعائية محضة لا صلة لها بالحقائق، كما جرت بالفعل.
استبعد «سامى شرف» مدير مكتب الرئيس «جمال عبدالناصر» أن تكون قصة تجنيد «أشرف مروان» قد تمت فى حياته.
«لم يكن يجرؤ ثم إن عيوننا مفتوحة على السفارة الإسرائيلية فى لندن، التى قيل إن مروان طرق أبوابها».
باعتراف مراوغ لمؤلف «الملاك» فإنه جرى تجنيد «أشرف مروان» قبل رحيل «عبدالناصر» بشهور قليلة، لكنه لم يقدم شيئا ولا شرع فى العمل لصالح الاستخبارات الإسرائيلية إلا مطلع حكم «السادات».
ليس شيئا جديدا فى التاريخ أن تتعرض دولة ما لضربات موجعة، أو اختراقات فى بعض مراكزها الحساسة.
دول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتى السابق تعرضت لمثل هذه الاختراقات أثناء الحرب العالمية الباردة وما بعدها.
مواجهة الحقيقة قضية رئيسية لسلامة الأمن القومى.
التدقيق مسألة مؤسسات والكلام المرسل عن أنه اخترق «الموساد» وضلله يفتقد إلى أى دليل على أنه كلف بالمهمة.
الإسرائيليون يستبعدون مطلقا ـ حسب كتاب «الملاك» ـ أن يكون قد كلف من «عبدالناصر» ولا يعقل أن يكلفه «السادات» بإفشاء توقيت بدء العمليات العسكرية ومصيره يتوقف على ما قد يجرى بعد ساعات على جبهات القتال.
كما لا يعقل الادعاء بأن مثل هذا الإفشاء من ضمن خطة الخداع الاستراتيجى، فقد أبلغ «مروان» الإسرائيليين أن الحرب سوف تبدأ فى الساعة السادسة من مساء السادس من أكتوبر، بينما بدأت فعلا بالساعة الثانية والشمس فى كبد السماء.
حسب رواية الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فقد كان ذلك هو الموعد المحدد فعلا لبدء الحرب، لكنه تقدم أربع ساعات للتوفيق بين القيادتين العسكريتين فى مصر وسوريا.
هذه مسألة يمكن التأكد منها ببساطة من الأرشيف الرسمى.
ما يرد على الدعايات الإسرائيلية هو ما يقنع ولا شىء آخر.
ولا تفل الدراما غير الدراما شرط أن تكون حقيقية ومصدقة.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع