بقلم - عبد الله السناوي
بقدر حساسية الملف يكتسب السؤال خطورته.
أين تذهب أموال التبرعات؟
السيناريست الكبير «وحيد حامد» بحث بما توافر له من وثائق ومستندات، كأى محقق صحفى استقصائى على درجة عالية من الكفاءة، عن أوجه الخلل الفادح فى إدارة وصرف التبرعات والهبات والمنح، التى تتلقاها مؤسسة (٥٧٣٥٧) أشهر مستشفى لعلاج سرطان الأطفال فى مصر.
هناك صلة فى العمق بين «أصول السيناريو» و«فنون العمل الصحافى»، كلاهما يستقصى حقائق مجتمعه ويكتسب قيمته من مدى اتصاله بما يشغل جمهوره.
تحسب له شجاعته فى اقتحام ما وصف بـ«عش الدبابير» وشبكات مصالحه المتداخلة، المعروفة والخفية، كأنه لعب مع الكبار، وتحمله لحملات ترهيب حاولت قطع الطريق على أى تحقيق عادل ومنصف يجلى الحقيقة أمام الرأى العام.
تعبير «عش الدبابير» جرى استخدامه فى أعمال درامية تلفزيونية سابقة كـ«أنا وأنت وبابا فى المشمش» للمبدع الراحل «أسامة أنور عكاشة» عن فساد المحليات وتعبير «اللعب مع الكبار» عنوان واحد من أهم أعماله السينمائية.
هذه قضية مجتمع بأسره يريد أن يرى أمامه الخطوط الفاصلة بين ما هو جائز وما هو غير جائز، ما هو خيرى وما هو مُجرم.
إجلاء الحقيقة أمام الرأى العام مسألة عدالة وحساب وانتصار فى نفس الوقت لـ«ثقافة التبرع لأعمال الخير» إنقاذا لمريض وإسعافا لمحتاج.
رغم الظروف الاقتصادية الصعبة فى مصر، فإن أهلها من أكثر شعوب العالم استعدادا للتبرع بما يقدرون عليه لمثل هذه الأعمال.
بثقافة التبرع الخيرى صبت أموال طائلة فى ميزانيات جمعيات أهلية وليست فى هذا المستشفى وحده.
لا يصح أن تترك التساؤلات معلقة على مشاحنات تخرج عن الموضوع ولا تجيب عليها، مرة باسم الحفاظ على صروح طبية ومؤسسات خيرية شيدت بأموال المواطنين، ومرة باسم أنها تؤثر سلبيا على تدفق أموال التبرعات اللازمة لعلاج الأطفال المصابين بالمرض اللعين.
هذا كله خارج الموضوع والتفاف عليه، فالدفاع عن الصروح الطبية التى أنشئت بأموال التبرعات واجب عام والعمل على شفاء المرضى التزام أخلاقى على كل من بوسعه النجدة والمؤازرة.
الموضوع هو سلامة التصرفات المالية والإدارية، وإذا ما كانت أموال التبرعات قد وظفت لغير أغراضها وشابتها تجاوزات تستحق التحقيق والمساءلة.
هذه مسألة قانون يلتزم المعايير الدولية فى ضمان حرية العمل الأهلى وقدرته على المبادرة دون مصادرة لنشاطه، أو وضع قيود أمنية أو غير أمنية على حركته، طالما التزم بطبيعة دوره وسلامة تصرفاته المالية.
هناك أكثر من (٤٧) ألف جمعية أهلية تجتهد فى حدود ظروفها على تخفيف حدة الأزمات الصحية والتعليمية فى المناطق المحرومة، التى لا تصلها الخدمات الحكومية، تحتاج إلى مثل هذا التشريع الحديث.
اُستبعد مشروع قانون جرت حوله حوارات موسعة بين أطراف العمل الأهلى قدمته وزارة التضامن الاجتماعى، وأقر البرلمان مشروعا آخر لا يعرف أحد من أين جاء خلال دقائق معدودة فى جلسة واحدة.
أسوأ ما فى القانون المجمد أنه كاد يصادر فلسفة العمل الأهلى وروحه بداعى إحكام القبضة عليه، وهاجسه بتزيد مفرط «المنظمات الحقوقية»، التى لا تتجاوز أعدادها العشرات.
بأثر ردات الفعل السلبية فى العالم على ذلك القانون لم يوقع الرئيس عليه وجرى تجميده انتظارا لوضع قانون جديد.. والانتظار طال.
فى غياب القواعد القانونية الملزمة هناك من تصور أنه فوق رءوس البشر، يفعل ما يشاء دون حساب واستبيحت ثقافة كاملة، لها إرث وتاريخ كالوقفيات، تضفى على «أعمال الخير» معانى التماسك الاجتماعى والشعور بآلام الآخرين.
إذا غاب الحساب بشفافية وعدالة فإن تلك الثقافة سوف تتقوض ويصبح العمل الأهلى كله دون ذنب ملطخا بالشكوك والريب.
باليقين فإن ما قررته وزيرة التضامن الاجتماعى الدكتورة «غادة والى» بتشكيل لجنة موسعة لفحص أعمال مؤسسة مستشفى (٥٧٣٥٧) تضم قانونيين ومتخصصين فى أورام الأطفال وإدارة المستشفيات وممثلين لجهات رقابية خطوة صحيحة بذاتها، لكنها تقصر بالوقت القصير المحدد لها وحجم ما هو معروض عليها من مستندات ومخالفات فى هذا المستشفى وغيره من المؤسسات المماثلة عن استيفاء الحقيقة وحساب أى متورط فى فساد.
كأى قضية رأى عام، فإنه لا بد أن تكون هناك فى النهاية إجابات مقنعة على كل ما طرح من تساؤلات تنال من سلامة التصرفات فى أموال التبرعات، دأب على طرحها منذ سنوات وحتى الآن المحقق الصحفى «أسامة داود» عضو مجلس نقابة الصحفيين السابق.
ما كتبه «وحيد حامد« لم يكن مفاجئا بذاته وأسئلته التقطتها من ضجيج الإعلانات المفرطة على شاشات الفضائيات أثناء شهر رمضان لجمعيات ومستشفيات أهلية عديدة، كأنها فى تنافس مع الشركات الكبرى للاتصالات والمياه الغازية.
ما حجم التبرعات السنوية؟ ـ تجاوزت رقم المليار جنيه.
ما تكاليف علاج الأطفال المرضى؟ ـ لا يتجاوز الـ(١٦٠) مليونا بكل مشتملاته من مستلزمات وأدوية وتجهيزات طبية.
الفجوة هائلة بين حجم ما يجمع من تبرعات وحجم ما يصرف على المرضى، رغم أن هذا الصرف موضوع التبرع وهدفه الأصيل، وربما الوحيد.
الأرقام كلها مزعجة وتستدعى وضع الأمور فى نصابها.
بالبداهة فإن من يتبرع يقصد ـ أساسا ـ من يعجزون تماما عن تحمل مصاريف العلاج، لا الفئات الأكثر غنى ونفوذا، وهناك شكاوى متداولة عن التمييز حسب الوضع الاجتماعى للمريض تستحق التحقيق فيها والحساب عليها.
ولا هو يتبرع لتنظيم حملات إعلانية، مدفوعة الثمن، وصلت تكاليفها إلى (١٣٣) مليونا.
ولا هو يتبرع لدفع أجور باهظة لأطباء وإداريين يعملون، أو يتعاملون مع مستشفى خيرى شيد بأموال التبرعات والأصل فيه التطوع لا تلقى المكافآت.
ولا هو يتبرع لاستثمار الأموال فى مشروعات ومسلسلات تلفزيونية، تكسب أو تخسر.
فتح الملفات حق عام واستبيان الحقيقة انتصار للعمل الخيرى حتى تذهب أمواله إلى أغراضه.
الملفات تستدعى بالضرورة سؤال مسئولية الدولة وكيف تدهورت خدمات المستشفيات العامة ومستوى ما يحصل عليه المواطن من علاج؟
أرجو ألا ننسى أن فلسفة العمل الأهلى سد ما لا تقدر أن تصل إليه الخدمات الحكومية.
سند لا بديل.
إذا ما غاب الأصل فإننا أمام أزمة كبرى سوف تتفاقم آثارها السلبية.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع