بقلم: عبد الله السناوي
القضية ليست أن تمر أو لا تمر التعديلات الدستورية المقترحة، التى أقرها مجلس النواب المصرى بأغلبية كبيرة، فقد جرت العادة بجميع الاستفتاءات باختلاف درجات نزاهتها وشفافيتها ومستويات حرية إبداء الرأى فى موضوعها أن تحسم «كتلة نعم» نتائجها.
على مدى عقود طويلة ومتناقضة فى خياراتها الرئيسية لم يحدث مرة واحدة أن نجحت «كتلة لا» فى منع تمريرها، مهما بلغت خطورتها وعمق الاستقطاب فى بنية المجتمع.
بعض الأسباب تعود إلى العزوف العام عن المشاركة فى مثل هذه الاستفتاءات بأثر التجارب السلبية المتراكمة، باستثناء ما تولد بأعقاب ثورة «يناير» من ثقة بأن لكل صوت قيمته فى تقرير المستقبل.
بعض الأسباب الأخرى تنسب إلى البيئة السياسية ومدى ما توفره من حرية إبداء الرأى فى موضوع يحتمل إجابتين: «نعم» أو «لا»، وهذه مسألة حريات عامة تصون حقوق المواطنين دون خوف أو خشية أذى، كما أنها مسألة تقاليد يفترض أن تتراكم ويرتفع الوعى العام بأهميتها حتى يكون المساس بها من المحرمات.
وبعض الأسباب الثالثة ترجع إلى مستوى الوعى تحت وطأة العوز والاستضعاف بالحقوق العامة فى المناطق المحرومة الأقل تعليما وصحة بمعايير تقارير التنمية البشرية والأكثر استعدادا لمجاراة السلطات، أيا كانت توجهاتها خشية أية أضرار قد تلحق بها.
فى أجواء «يناير» بدا أن تجاوز موروثات الماضى ممكن، فقد امتدت طوابير الاستفتاء أمام اللجان لكيلو مترات تحت المطر.
كان المشهد بديعا واستثنائيا، غير أنه لم تكتب للتجربة أن تأخذ مداها وتتكرس قواعدها.
استحالت مشاهد استفتاء مارس (2011) على تعديلات دستورية محدودة إلى مشاحنات طائفية قادها السلفيون و«الإخوان المسلمون»، كأن الاستفتاء على الدين نفسه.
كانت تلك الخطيئة المؤسسة لاختطاف الثورة نفسها.
تكرر الأمر نفسه فى الاستفتاء على دستور (2012)، الذى صاغته الجماعة مع حلفائها، دون أدنى اعتبار لحقيقة أن الدساتير توضع بالتوافق لا الإقصاء، بالرضا لا التخويف وإلا فإنها تفقد مشروعيتها وتكون نهايتها مسألة وقت.
الدساتير ليست نصوصا تصاغ على ورق تمر بالاستفتاء قبل أن تودع الأدراج، يؤخذ ببعضها حسب مقتضيات المصالح الآنية ويترك أغلبها دون إنفاذ، بقدر ما هى القواعد المنظمة لإدارة الدولة على نحو حديث يضمن التوازن بين مؤسساتها وعدم تغول السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية ويصون الحريات والحقوق العامة.
لكل دستور فلسفته، فإذا ما تقوضت أزهقت روحه.
فلسفة الدستور، أى دستور، أهم من نصوصه.
النصوص قد يطرأ عليها التعديل، فالدستور ليس قرآنا ــ كما قيل لتسويغ التعديلات المقترحة.
هذه حقيقة والدستور المصرى الحالى ينظم طريقة تعديله.
غير أن الدستور ــ كما يجب أن يقال ــ ليس لعبة تدخل عليها تعديلات من وقت لآخر دون حاجة أو مقتضى أحيانا.
كانت الدعوة لوضع دستور جديد بعد عشر سنوات قبل الاستفتاء على التعديلات المطروحة أسوأ ما تردد تحت قبة البرلمان، أو نشر على ورق صحف.
إنه الاستخفاف الكامل بأية أصول وقواعد يعرفها العالم الحديث والدول التى تحترم نفسها.
قيمة الدساتير فيما تنطوى عليه من قواعد لا يصح معها أى تعديل أثناء إنفاذها، وإلا فإنها «تشخصن» ما هو عام بطبيعته، كالتعديل الذى أدخل لتمديد مدة رئيس الجمهورية الحالى لعامين إضافيين حتى تصبح (6) سنوات بدلا من (4) وإجازة إعادة انتخابه لمرة تالية.
هذا النص ــ بالذات ــ استوقف التغطيات الإعلامية الدولية أكثر من غيره، وربما دون غيره.
رئيس مجلس النواب المصرى اعتبر التركيز على ذلك النص أمرا مجحفا وغير منصف.
هل هذا الاستنتاج قادر على إقناع أحد فى العالم بأن التعديلات أوسع من أن يكون التمديد الرئاسى جوهرها وداعيها؟
لم يكن تعديل النص الرئاسى وحده موضوع المساجلات، التى جرت فيما أطلق عليه «الحوار المجتمعى» داخل البرلمان دون أن يمتد إلى خارجه فى الصحافة والإعلام، وهذه مأساة بذاتها.
تواترت اعتراضات على نصوص التعديلات الأخرى، فيما يتعلق بالقضاء ومدى استقلاله عن السلطة التنفيذية، وإعادة تعريف الدور الدستورى للقوات المسلحة وإنشاء غرفة برلمانية ثانية باسم «مجلس الشيوخ» دون أن تكون هناك مهام حقيقية مسندة إليه فضلا عن تكلفة انتخابه ورواتب أعضائه على موازنة الدولة المثقلة.
مضت المساجلات شبه المكتومة حول كل نص وحرف دون أن يتاح للرأى العام على نحو واسع أن يطلع على وجهات النظر المختلفة.
لم تمكن المعارضة المدنية من أن تعرض الأسباب التى تدعوها للتصويت بـ«لا»، حسب التوجه السائد، أو مقاطعة الاستفتاء حسب توجه آخر دون حسم للموقف الأخير حتى الآن.
بحكم الأصول المستقرة لا ينبغى أن تكون الدساتير موضوع منازعة ولو بالمقاطعة أو الصمت بين حكم ومعارضة، الأصل هو التوافق، غير أنه لا يمكن الادعاء أن شيئا من ذلك قد حدث.
كان لافتا نسبة البرلمانيين الذين أقروا التعديلات (531) إلى من رفضوها (22) فى الجلسة التى صوتت عليها نداء بالاسم.
الفارق الكبير لا يعكس موازين القوى السياسية الحقيقية بقدر ما يعبر عن طبيعة البرلمان الحالى والظروف التى أتت بنوابه إلى مقاعدهم.
بدت نظرتان متناقضتان فى تلك الجلسة.
أولاهما، تبنتها كتلة «الموالاة» التى ذهبت إلى اعتبار التعديلات الدستورية ضرورية لاستكمال الرئيس الحالى المشروعات التى بدأها وضمانا لاستقرار البلد.
بل إن تقرير لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، التى أقرت الصياغة الأخيرة، قالت نصا: «إن فلسفة تعديل الدستور تقوم على أساس بناء مؤسسات قوية ومتوازنة وديمقراطية تقوم بمسئوليتها بكفاءة دون المساس بالضمانات الأساسية التى كفلها الدستور» دون أن يتسق ظاهر الألفاظ مع حقائق الأمور.
بذات الاتجاه ذهب رئيس المجلس النيابى إلى اعتبار التعديلات تدعيما للإصلاح السياسى دون أن يقول كيف؟.. ومتى؟.. وما المقصود بالإصلاح السياسى؟
وثانيتهما، أعربت عنها كتلة «المعارضة»، التى رفضت التعديلات جملة وتفصيلا، شكلا وموضوعا، ونزعت عنها مشروعيتها واعتبرتها تجاوزا دستوريا لا يصح الاستفتاء عليه.
تدرك أن التعديلات سوف تمر، لكنها تتحسب مما قد يحدث غدا من تداعيات وعواقب.
كان أسوأ ما جرى فى جلسة إقرار التعديلات ذلك التعبير المتفلت، الذى يسىء لكل معنى سياسى وأخلاقى فى البلد، باتهام المعارضين بأنهم «غير مصريين».
رغم أن رئيس البرلمان رفض التفلت اللفظى إلا أنه بذاته تعبير عن نوع من الاستباحة سممت المجال العام.
الاختلاف والتنوع من ضرورات التحول إلى دولة حديثة، مدنية وديمقراطية، بالممارسة لا الادعاء.
ما يحمى الاستقرار الضرورى فى هذا البلد أن تؤكد قواه السياسية الحية بقدر ما تستطيع أهمية احترام القواعد الدستورية الحديثة لا الالتفاف عليها وتلفت رغم أية أجواء سلبية إلى أهمية إنفاذ ضمانات الحريات والحقوق العامة واستقلال القضاء واستقلال الجامعات وحرية العمل الأهلى والنقابى والثقافى المنصوص عليها فى الدستور.
بقدر الانفتاح على العصر وقيمه الدستورية الحديثة التى تضمن الحريات العامة لمواطنيها وترفع المظالم عن كاهلهم تتأكد قوة الدول وقدرتها على توفير الأمن والاستقرار وتكتسب قدرتها على صنع مستقبلها بثقة.
هذه بديهية لا يصح السجال فيها.