بقلم : سمير عطا الله
يطيب للإنسان كلما تقدم في السن أن يستعيد ما هو طيب من الذكريات والصداقات. وبعض هذه الذكريات يحمل في طيه تشريفاً. عندما دعيت إلى إلقاء محاضرة في دار حمد الجاسر، خامرني شعور واحد وهو الاعتزاز بالوقوف في كنف العلم، والتشرّف بالمرور في مدرسة عَلَم من أعلام الجزيرة.
استهل حمد الجاسر الحلقة الأولى من «ذكريات ورحلات» قائلاً: «كانت أولى رحلاتي إلى مدينة الرياض سنة إحدى وأربعين وثلاث مائة وألف، وقد تجاوز عمري إذ ذاك العاشرة بسنوات، وهي فترة من حياتي عشتها عيشة بؤس وشقاء، وضعف في صحتي مما انتابني من أمراض». ويقول: «أخبرتني أختي بأنني حُفر لي أربعة قبور، أي أن اليأس من حياتي اعترى أهلي أربع مرات بحيث كانوا يحفرون القبر لي، ولكن يدفن فيه غيري». ويقول في موضع آخر: «... لا أزال أذكر ما يردده أبي عليّ، حين يشاهد ما أنا عليه من ضعف فيما معناه: هذا الشيخ عبد الرحمن بن عودان، وكان قاضي الجهة التي تقع فيها قريتنا كان أبوه يقول: أنا ما أخاف على عيالي، فهم أقوياء ويستطيعون أن يعيشوا كغيرهم من الناس، ولكن هذا (الأعيمي) المسكين بفضل العلم يعيش إخوته بكنفه!!». وكأن والده بهذه القصة يشجعه على الاهتمام بالعلم، فقد يصبح، رغم اعتلال صحته، مثل صاحبنا «الأعيمي» الذي يعيش إخوته بكنفه بفضل العلم.
حيثما ذهب حمد الجاسر نشر من حوله العلم. أولاً، في الوظيفة الرسمية التي ترقى فيها سيداً من أسياد المعارف والتربية. لكنه وجد المنصب ضيقاً على طموحاته العلمية، فاختار الصحافة منبراً له ومسرحاً لجهوده. هكذا كان أول من أسس «اليمامة»، وأوائل من عمل في تحرير صحيفة «الرياض». وفي غضون ذلك كان قد أصبح عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، والمجمع العلمي العراقي، والمجمع العلمي المصري. وبهذا رفع مستوى الصحافة من العمل العاجل إلى الفكر المتأمل. ومن شدة ارتباطه بالجزيرة العربية وتاريخها وجغرافيتها وتراثها أصدر مجلة «العرب» من أجل التخصص فقط في تاريخ الجزيرة وآدابها. وقد التم حوله عدد من كبار الأقران يساعدونه في الأبحاث والتوثيق. وغالباً ما كان يطوف بنفسه على المواقع والقرى والمناطق، مازجاً دوماً بين علم الاجتماع وعلم التاريخ. عاش ومات، رحمه الله، في الكتب وعالم الكتب. أنشأ الصحف وامتلك المطابع وافتتح المكتبات. أي كل ما له علاقة بالكلمة والحرف، فذلك كان عالمه الوحيد. وقد أُعطي الدكتوراه الفخرية، ونال أهم وأرقى الجوائز العلمية في السعودية والإمارات والكويت ومصر. وبدا كل هذا التكريم أمراً طبيعياً لا نقاش فيه. رجل في حجمه وآثاره مؤسسة علمية كاملة.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع