بقلم: حازم صاغية
رأى دبلوماسي فرنسي في القرن التاسع عشر أنّ موقعَ أميركا الجغرافي مصدرُ قوّتها: ففي شمالها وجنوبها بَلَدان ضعيفان، وعلى جانبيها الشرقي والغربيّ... سَمك. ذاك أنّ كندا والمكسيك و«سمك» المحيطين الأطلسي والهادئ لا تشكّل تهديداً لأميركا أو حدّاً على سلطانها.
النظريّة هذه تكفّ عن العمل حين تنأى الأمكنة، ويتعطّل الشرط الجغرافيّ؛ خصوصاً متى كان ذاك البعيد «حوتاً» كالصين. ما يضاعف تعقيد المسألة أنّ الأخيرة اكتسبت قوّتها بفعل العلاج الغربي المسمّى حرية التبادل التجاريّ. بهذا استدخلتْ فيها شيئاً من أميركا والغرب.
والأمر إنّما لبس ثوب المفارقة: فهذا العلاج لم يُجرّب بقسوة، كما جُرّب في الصين، بلد السور «العظيم» لحماية «إمبراطوريّة الوسط» من «البرابرة». لقد فُرض علاج التبادل فرضاً على الصينيين، الذين أُريدَ تخديرهم بالأفيون، ما استجرّ بينهم وبين البريطانيين، أواسط القرن التاسع عشر، «حربي الأفيون» الشهيرتين. لكنّ ما قاومته الصين حينذاك بات هو نفسه دينها وديدنها. وعلى يد من؟ نظام شيوعي آثر من تلقائه الانضمام إلى منظّمة التجارة العالميّة، قبل أن يتزعّم، في ظلّ شي جينبينغ، الدعوة إلى العولمة.
المفارقة تزدوج حين نرى الولايات المتّحدة، في ظلّ ترمب، تتصدّى لحرية التبادل، وللعولمة، ولا ترى فيهما إلاّ نسغاً يغذّي عروق الصينيين وعروق كلّ من «ينهبنا»، وهم كلّ العالم. هذا إنّما يقوله البلد الذي غالباً ما وُصف ببلد الهجرة والمهاجرين، والذي طالما منح الهاربين من أوطانهم وجنسيّاتهم وطناً وجنسيّة. فهو إذ يتحدّث عن «النهب» الذي تتعرّض له بلاده، يستعير لغة ضبّاط «العالم الثالث» وقادة حروب العصابات حين يندّدون بـ«نهب الإمبراطورية الأميركية» لشعوبهم، ويدمجها بلغة اللاسامية الأوروبية التي تحدّثت عن «طفيلية اليهود ممن يمصّون دماءنا».
إذن، وعملاً بالتعميم الفضفاض لتعبيري «شرق» و«غرب»، بات في صين جينبينغ من الغربيّة الرأسماليّة ما بات في أميركا ترمب من الشرقيّة العالمثالثية. لكنْ بتراجع «الغربيّ» في أميركا تراجعت الديمقراطية، من دون أن تكسب بتقدّم «الغربيّ» في الصين.
فمؤخّراً حلّت الذكرى الثلاثون لمذبحة ساحة تيان آن مين، فذكّرتنا بأنّ بيجين قرّرت، منذ 1989، وعلى جثث مئات القتلى، والبعض يقول آلافهم، ألا تتبنّى الديمقراطيّة، وأنّ الرأسمالية، كما أطلقها دينغ هشياو بنغ أواخر السبعينيات، لن تجتاز تلك العتبة.
نعم، الصين استوردت «الغربيّ» في شكله الاقتصاديّ، لكنّها أبقته تحت إمرة «الشرقيّ» في شكله السلطويّ.
أبعد من ذلك أنّ التغيّرات في القاموس الآيديولوجي للدول، وفي توازن القوى بينها، لم تعد تنعكس بتاتاً على أحوال الديمقراطيّة. وإذا صحّ أنّ الدبلوماسية لم تكن مرّة رفيقة درب لتلك الديمقراطيّة، إلاّ أنّها تغدو اليوم عدوّها الصريح.
هذه الحقيقة الصلبة تقابلها حقيقتان هشّتان تعزّزان المعنى نفسه. لقد احتفل العالم مؤخّراً بمرور 75 سنة على إنزال النورماندي، وبعد أشهر قليلة سوف يحتفل بمرور 30 سنة على هدم جدار برلين وسقوط الشيوعيّة ومعسكرها. بيد أنّ انهيار التوتاليتاريّتين الأوروبيّتين بات يُنظر إليه كإنجاز قابل للانتكاس أو معطى لا يحظى بالإجماع.
إنزال النورماندي: ذاك الغزو البحري الأكبر في التاريخ، الذي افتتح تحرير فرنسا والانتصار على «الجبهة الغربيّة»، شكّل إحدى المحطّات العسكريّة الكبرى في إلحاق الهزيمة بالفاشيّة. دور أميركا القيادي وتعاونها مع بريطانيا ومع الخصوم الأوروبيين لألمانيا النازيّة كانا حاسمين.
اليوم، وعلى رغم حضور ترمب احتفالات لندن المطنطنة، تعيش العلاقات الأميركيّة - الأوروبيّة أسوأ مراحلها، ويجهد الرئيس الأميركي لإقناع البريطانيين بتنفيذ «بريكست من دون اتفاق» مع الاتّحاد الأوروبيّ. وإذا كان من المبالغة الكلام عن انبعاث الفاشيّة، فالمؤكّد هو سقوط محرّمات كثيرة كانت تحول دون انبعاث كهذا. النتيجتان معاً تشكّلان سبباً آخر للقلق على الديمقراطيّة في مهدها.
لكنْ إلى ذلك، سجّل الروس، الذين لم يُدعَ زعيمهم فلاديمير بوتين إلى احتفالات لندن، فكرة سجاليّة ليست عديمة الصلة بتأويل التاريخ: إنّ دور إنزال النورماندي في القضاء على الفاشيّة مُبالَغ فيه كثيراً، أمّا الدور الفعلي فلنا، نحن الروس الذين دخلنا برلين بعدما استنزفنا الألمان في ستالينغراد، أهمّ معارك «الجبهة الشرقيّة».
هدم الجدار: نعم، لقد هُزمت الشيوعيّة بعد هزيمة النازيّة، وهزيمتُها تحقّقت من خلال ثورات سلميّة ومدنيّة وسّعت نطاق الديمقراطيّة ونطاق أوروبا، كما غيّرت مفهوم الثورة نفسه. لكنّ روسيا وأوروبا الوسطى تشكّلان اليوم أكبر رقعة جغرافيّة تحكمها الشعبويّات القوميّة. التشكيك بوحدة القارّة والعداء للمهاجرين واللاجئين هما العقيدة الأصلب في تلك المنطقة من العالم. مع هذا، وعلى عكس ما كانت الحال بين الشيوعيّة الروسيّة وشيوعيّات أوروبا الوسطى، فإنّ الحذر، بل الخوف، يربط شعبويّات وارسو وبراغ بالشعبويّة الأقوى في موسكو.
في هذه الغابة من الاتّجاهات المتنافرة، ثمّة شيء واحد لا يعوزه الوضوح: انحسار الديمقراطيّة، وتالياً تراجع الأمن والاستقرار في عالم مهدّد بحدث ما، حدثٍ قد يُطبق علينا مثلما يُطبق رعد مباغت.