بقلم: حازم صاغية
من السهل تعداد الرسائل والصفعات التي وجّهتها الانتخابات الأوروبيّة:
اليمين الشعبويّ، خصوصاً في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، حقّق تقدّماً ملحوظاً، لكنّه لم يحرز ما أراد. جرس الإنذار بات أعلى صوتاً، لكنَّ الشروط اللازمة لتجنّب المأساة لا تزال متوافرة، وإن كانت بحاجة إلى التفعيل وإلى قيادات تنجز ذلك. تأكّد كم أنّ الأحزاب الوسطيّة والتقليديّة لليمين واليسار سائرة إلى انحسار، فيما بات حاسماً أنّ الاتّحاد الأوروبي مطالَبٌ بأن يعيد اختراع نفسه على نحو أقلّ بيروقراطيّة وأكثر جاذبيّة. وبدوره أصبح التعاون بين مؤيِّدي أوروبا في البرلمان الجديد مسألة قاهرة. إنَّ صدّ التأثير الشعبوي يحتلّ أولويّة الأولويّات، لكنّ الاستجابة للهمّ الاجتماعي يبقى الشرط الشارط لصدّ ذاك التأثير. الأولويّة هذه تسخّف الخلاف الفرنسي – الألماني حول رئيس المفوضيّة.
الإقبال المرتفع على التصويت، حتّى لو كان الصعود الشعبوي أحد أسبابه، قدّم شهادة على أنّ الديمقراطيّة ما زالت تعمل، وشهادة أخرى على أنّ أوروبا لا تزال موضوعاً أساسياً في حياة الأوروبيين إيجاباً وسلباً. كذلك قال التصويت للبيئويين الخضر إنّ القضايا العابرة للحدود، والتي لا تُعالَج على نطاق وطنيّ، تحتلّ موقعاً بارزاً في الوعي والسلوك. وحين تكون الشبيبة أبرز مؤيّدي الخضر فهذا يشير إلى وجهة مستقبليّة واعدة. هنا يكمن أحد الأساسات التي يُبنى عليها في مواجهة القوميين.
لكنْ لا بأس بالرجوع قليلاً إلى ما يمكن أن نسمّيَه استراتيجيّة الخداع الشعبويّ. فقبل ثلاث سنوات بدا «بريكزيت» خصباً وولّاداً كالقطط في فصل الشتاء: إنّه البديل الأوحد عن أوروبا. لفرنسا سيكون هناك «فريكزيت»، ولإيطاليا «إيتاليكزيت»، ولدويتشلاند، أي ألمانيا «ديكزيت»، ولنيذرلندز، أي هولندا «نيكزيت»...
هذه ليست أسماء ألعاب للصغار. إنّها طرق في كسر أوروبا واقتراحاتٌ خفقت لها قلوب ملايين: أوروبيّون يريدون ألا يكونوا أوروبيين، طحنتهم العولمة وحاصرتهم النيوليبراليّة وأرعبتهم الهجرة. أمّا أنانيّة النُّخب السياسيّة فنفّرتهم من النُّخب ومن السياسة. معاناتهم كانت في جزء كبير منها حقيقيّة وصادقة، إلاّ أنّها نطقت بلسان كاذب.
لقد قال لهم قادتهم الشعبويّون إنّهم ضدّ فساد النخب. هذا كذب. آخر الحوادث وأشدّها فداحة كان بطلها واحداً من هؤلاء الشعبويين: هاينز كريستيان ستراشه من «حزب الحرّيّة» النمساوي شبه الفاشيّ.
القادة الشعبويّون قالوا لهم أيضاً إنّهم قوميّون وسياديّون. وهذا كذب. روائح بوتين وترمب تفحّ من معاطفهم. ففضلاً عن ستراشه المتورّط مع الروس، تلقّت مارين لوبن قرضين من المصارف الروسيّة بقيمة 11 مليون يورو دعماً لحملتها الانتخابيّة. التحقيقات مستمرّة في احتمال تورّط البريطاني نايجل فاراج، مؤسّس «حزب بريكزيت» الجديد، بدعم روسي لحملته إبّان الاستفتاء. في المقابل، بات الزعيم الهنغاري فيكتور أوربان يوصَف بـ«رجل دونالد ترمب» في أوروبا.
لكنّ كذبة الأكاذيب عاشت أقصر الأعمار: «بريكزيت» نفسه، تلك القطّة الولاّدة، راح يتخبّط بدمائه. استقالة تيريزا ماي، بعد محاولات الإنقاذ الفاشلة، ظهّرت المعضلة. مَن سيرثها في رئاسة الحكومة سوف يرث معضلتها حكماً. أمّا إذا حلّ محلّها بهيّ الطلعة بوريس جونسون، راكباً رأسه بالخروج من الاتّحاد دون اتفاق، فأغلب الظنّ أنّ رئاسته سترتّب نتائجَ مُرّة هذه بعضها: سيتضرّر البيزنس الذي يعتمد بريطانيا طريقاً للوصول إلى الأسواق الأوروبيّة تصديراً واستيراداً. ستضمحلّ فرص عمل كثيرة. ستتوجّه استثمارات إلى بلدان أخرى. سيضعف الإسترليني ويرتفع التضخّم بما يخفض مستوى المعيشة...
محنة «بريكزيت» هذه مثّلت اصطدام الآيديولوجيا بالواقع: الذين توهّموا أنّهم يعرفون الحقيقة كلّها بعيداً من التجريب والمقارنة، بل على الضدّ منهما، هاجمهم الواقع على نحو مُخجل لأفكارهم. لقد ظنّوا أنّ آيديولوجيا «بريكزيت» تفتح لهم، باسم ماضٍ إنجليزي خرافيّ، أبواب المستقبل، فإذا بالحاضر والمستقبل يَنسدّان معاً.
الجمهور الشعبوي في بريطانيا آثر المداواة بالداء نفسه. هكذا صوّت لـ«حزب بريكزيت». لكنّ الراغبين في استيراد «العلاج» من لندن أُصيبوا بالجفلة. استراتيجيّتهم تغيّرت: استضافهم في ميلانو «القبطان» ووزير داخليّة إيطاليا ماتيّو سالفيني حيث احتفلوا بخطّتهم لتغيير أوروبا من داخل مؤسّساتها، وبجعل القارّة «أصيلة» و«جديدة» معاً. وسيلتهم هي انتخابات البرلمان الأوروبي التي أرادوا لها أن تجعلهم الكتلة الثالثة الوازنة، علماً بأنّهم يختلفون حول أمور كثيرة تمنعهم من التحوّل إلى كتلة: حول روسيا، وحول حصص المهاجرين واللاجئين، وحول سياسات اقتصاديّة من طبيعة رعائيّة... مع هذا فأوروبا وقيمها، التي ينبغي أن تقوى، هي ما يريدون إضعافه، والأخطر أن يترافق إضعافها، عبر انتزاع الصلاحيات من مؤسّساتها الاتّحاديّة، مع الميول الإمبراطوريّة لتعظيم قوّة أميركا ترمب وروسيّا بوتين وصين جينبينغ. فضائح ستراشه ولوبن وفاراج والآخرين لم تضعف عزائمهم ولم تحرّك عقولهم.
لمثل هؤلاء لا يُعطى مجد أوروبا.