عمرو الشوبكي
ماذا تعنى ظاهرة اللواء خليفة حفتر فى ليبيا؟ تعنى تقريباً الطبعة الليبية لظاهرة السيسى فى مصر، ففى مصر هى ابنة دولة ومؤسسات ولو مأزومة، وفى ليبيا هى بنت اللادولة والجماعات المسلحة، وفى كلتا الطبعتين هى مدعومة بروح شعبية هائلة واجهت صعود الإخوان والجهاديين من سيناء إلى بنى غازى ومحاولاتهم الهيمنة على النظام السياسى الوليد.
الطبعة الليبية مما جرى فى مصر تقول إن الرسالة الإخوانية واحدة، ورد الفعل يكاد يكون واحداً؛ أن هناك محاولات للتمكين والهيمنة يقابلها رفض شعبى وعسكرى. فى مصر وصل الإخوان للسلطة بانتخابات ديمقراطية، وسقطوا بإرادة شعبية دعمها الجيش، وفى ليبيا لم يصلوا بطريق ديمقراطى لأنه لم تجر أى انتخابات ديمقراطية أو غير ديمقراطية، ومع ذلك حاولوا أن يسيطروا على الجيش النظامى وعلى المؤتمر الوطنى ويفرضوا وصاية على المجتمع متحالفين مع التكفيريين والجهاديين (جماعة أنصار الشريعة) داخل ليبيا وخارجها.
علينا أن نتأمل خطاب قائد الجيش الوطنى الليبى حتى نعرف بالضبط كيف استدعى سلوك الإخوان المتكرر هذا النوع من ردود الأفعال التى أثارت كراهية حقيقية فى نفوس قطاع واسع من الليبيين، فقد قال الرجل فى حديث نشر مع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (يجب أن نتحسر على عدم قيام أى صحيفة أو قناة مصرية بإجراء حوار مع الرجل)- قال: «إن القاسم المشترك بين ما يجرى فى مصر وليبيا أن الخصم واحد، ألا وهو الإخوان، الداء والمرض الخبيث الذى يريد أن ينخر فى عظام الدول العربية»، وقال أيضاً: «وبصفتى عربياً أولاً، لا نريد هذه الحواجز التى يضعونها هم، ثانياً من يعمل على خراب مصر لا يسعد الليبيين، والليبيون كلهم يعرفون مصر والروابط العزيزة التى تجمع بيننا، ونتأثر بما يحصل فى مصر»، منوهاً بأن «الاختلاف بين البلدين يكمن فى أن النظام فى ليبيا منهار تماماً، والصعوبة أكبر، حيث إن الجيش والشرطة مفككان، وهذه الجماعات تعلن جهاراً نهاراً أنها لا تريد بناء الجيش والشرطة، وإنما فقط تطبيق الشريعة الإسلامية».
فى ليبيا الإخوان لا يريدون بناء الجيش ولا الشرطة، وفى مصر حاولوا السيطرة عليهما واختراقهما، والنتيجة أنه فى ليبيا لا يوجد جيش بالمعنى الوطنى إنما يوجد كيان ضعيف يسمى «الجيش الليبى»، وتوجد قوات حفتر التى تسمى «الجيش الوطنى»، وهى ليست الجيش النظامى إنما هى فرق مسلحة قادت معركتها ضد الإخوان والجهاديين وسمتها «معركة الكرامة»، وهى أقوى فى عتادها وعدادها من الجيش الرسمى النظامى الذى أصبح أضعف مَنْ فى المعادلة الليبية، ويذكرنا بالجيش اللبنانى أثناء الحرب الأهلية حين انشقت عنه فرق، وسيطرت الميليشيات على المدن والشوارع، وتوارى الجيش النظامى عن المشهد، والنتيجة مائة وخمسون ألف قتيل فى بلد كان تعداده 5 ملايين نسمة.
فى ليبيا ثمن سقوط الدولة هو 50 ألف قتيل، واقتتال أهلى وجماعات إرهابية، وبدون أى تدخل من مصر خرج من يقول فى ليبيا إننا سنبنى الدولة على طريقة بسمارك موحّد ألمانيا بالقوة، لأنه لا توجد آلية واحدة لبنائها بالطريق الديمقراطى فى ظل وجود الجهاديين والتكفيريين.
مشكلة المجتمع المصرى- كما الليبى- مع الجماعة السرية المغلقة ليست فى أن الدولة العميقة تكرهها، ولا أن الإعلام حاربها، إنما أن أغلب الشعب لفظها تماماً مثلما لا يرى البعض شعبية السيسى أو يعتبرها مصنوعة إعلامياً أو مخابراتياً، وينسى أو يتناسى أن هناك حاجة موضوعية لهذا «البروفايل» (السيسى مصرياً وحفتر ليبياً) الذى اعتبره الناس فى مصر قادراً على مواجهة خطر الفوضى والاستباحة وهدم الدولة، وفى ليبيا اعتبره الناس هو القادر على بناء الدولة الغائبة فى مواجهة ميليشيات الإخوان وحلفائهم.
القضية فى مصر- كما فى ليبيا- لم تكن مؤامرة هنا كما هناك، إنما حاجة موضوعية أو استدعاء شعبى ونفسى لنمط استثنائى من التدخل الجراحى لم يكن هناك بديل عنه لاستبعاد حكم الجماعة التى تكره الدولة والمجتمع معاً.
فالناس تعلم أن ما جرى فى مصر يوم 3 يوليو تدخل عسكرى خارج المسار الديمقراطى، ولكن لولا هذا التدخل لكانت مصر دخلت فى سيناريو الاقتتال الأهلى الليبى أو السورى أو التقسيم السودانى، ونفس الأمر فى ليبيا فإن بقاء سيطرة الإخوان سيعنى عملياً تقسيم البلاد وتحويل مؤسسة الجيش النظامى إلى مؤسسة إخوانية على طريقة ما جرى فى السودان.
إن أى تجربة حاولت أن تهندس المجتمع ثقافياً واجتماعياً وفق أجندة أيديولوجية كان مآلها الفشل الذريع، وكل تجربة احترمت هذه القيم دون أن تستسلم لجوانبها السلبية، بل دفعت الناس لتغييرها بمحض إرادتهم ودون إجبار كان مآلها النجاح.
وهذا هو الفرق بين المشاريع الديمقراطية التى لا يمكن أن تتحقق دون وجود دولة وطنية، والمشاريع الشمولية التى يقدمها نموذج الإخوان فى الهيمنة والاستعلاء.
إن معركة العالم العربى الأولى هى فى الحفاظ على الدولة الوطنية وإصلاحها، وما جرى فى مصر يوم 3 يوليو هو محاولة لتحقيق الخطوة الأولى (الحفاظ على الدولة)، ولكننا لم نتقدم أى خطوة نحو تحقيق الخطوة الثانية (إصلاح الدولة)، وأمامنا تحديات كثيرة لتحقيقها ولن نستطيع أن نحافظ على الدولة دون إصلاحها.
أما فى ليبيا فمعركة حفتر هى محاولة لبناء الدولة الوطنية غير الموجودة أصلاً، وسبق أن دمرها القذافى، وحاول الإخوان تفصيلها على مقاس الجماعة وليس الشعب الليبى، وهى محاولة لوضع اللبنة الأولى فى بناء دولة وطنية فى ليبيا قادرة على أن ترسم حدود للعبة السياسية ومبادئها.
ما جرى فى ليبيا هو رسالة واضحة للعالم أن هناك مشكلة عميقة فى جماعة الإخوان حين توجد وتنتشر وتتمكن فى ظل غياب الدولة الوطنية، وأى قواعد قانونية ودستورية تفرض عليها الفصل بين الجماعة الأممية الدعوية والحزب السياسى، لذا فشلت فى مصر وليبيا والسودان والعراق، حيث غابت القواعد الدستورية والقانونية (أو فُصّلت على مقاس الجماعة كما حدث فى مصر) وفى بعض الأحيان غابت الدولة، ونجحت فى تونس والمغرب وتركيا لأنها أحزاب داخل دولة تلتزم بالدستور وليست جماعة فوق الاثنين، فاختلف معها الناس وانتقدوها وتمنى كثيرون تغيرها، ولكنها لم تستطع أن تكون فوق الدولة وتقول الدولة أنا (أى الجماعة) وأنا الدولة (أى الجماعة)، وحين فعلت ذلك كان من الطبيعى أن نرى الطبعة الليبية من المسار المصرى.
"المصري اليوم"