أعلنت الولايات المتحدة حربها على داعش، لتعلن بذلك حربها الثانية على الإرهاب، وبين «الحربين» الأولى والثانية جرت مياه كثيرة، وتغيرت نظم ومفاهيم، وصارت الحرب الأولى طريقاً لانتشار الإرهاب، فهل سنضمن أن الحرب الثانية لن تكون عاملاً جديداً لنشر الإرهاب وليس محاربته؟
لقد أعلنت الولايات المتحدة حربها الأولى على الإرهاب عقب اعتداءات 11 سبتمبر، وحشدت قوى عالمية كثيرة، ونالت شرعية دولية من الأمم المتحدة حين غزت أفغانستان وأسقطت نظام طالبان المتحالف مع القاعدة، ولم تعبأ بالحصول عليها مرة أخرى فى معركتها الثانية ضد العراق، فغزته وأسقطت نظام صدام حسين دون أى شرعية دولية، بل إن أوروبا نفسها انقسمت انقساما عنيفا بين فرنسا وألمانيا اللتين قادتا معسكر رفض الحرب، وبريطانيا التى حاربت مع الأمريكان.
لم تشارك مصر ولا الدول العربية فى غزو العراق، ورفضت التدخل الأمريكى وحذرت من تداعياته، وتعزز موقفها حين فشلت الحرب الأمريكية الأولى على الإرهاب، وتحول العراق إلى حقل تجارب لأفكار اليمين الأمريكى المتطرف، وجماعة المحافظين الجدد، وأصبح مشروع محاربة الإرهاب مصدرا من مصادر انتشاره، حتى امتد إلى دول الخليج العربى ومصر والمغرب.
والمؤكد أن البلد الذى جاءت أمريكا لتخلصه من الديكتاتورية أصبح ملجأ لكل الجماعات الجهادية والتكفيرية، بعد أن شاهد العدو البعيد (أمريكا والغرب) يأتى على أرضه ويصبح قريبا.. ومع ميلاد نظام سياسى جديد فى العراق، هيمنت عليه أحزاب شيعية معظمها طائفى، فدفع مزيدا من الجهاديين والطائفيين السنة إلى المجىء للعراق من أجل محاربة «الرافضة» و«الخوارج»، فظهر أبومصعب الزرقاوى، قائد تنظيم القاعدة، ثم أبوبكر البغدادى، قائد دولة داعش، وارتكبوا من الجرائم ما يندى له الجبين فى بلد لم يعرف قبل الغزو الأمريكى أى احتقانات طائفية، وعرف أعلى نسبة زيجات مختلطة بين السنة والشيعة وتداخل ونسب بين العشائر من مختلف الطوائف، رغم استبداد نظمه السابقة.
وعاد العراق مرة أخرى ليكون نقطة الانطلاق الثانية فى الحرب على الإرهاب بعد أن سيطر تنظيم داعش الإرهابى على مساحات واسعة من أرض العراق وسوريا، وبعد أن دقت الولايات المتحدة وحلفاؤها طبول الحرب الثانية على الإرهاب، ودعت إلى لقاء عربى- غربى فى جدة، ثم دعت فرنسا إلى لقاء آخر مشابه فى باريس، وأصبح السؤال الكبير: هل ستختلف الحرب الثانية عن الأولى؟، وكيف نضمن ألا تؤول الحرب الثانية إلى نفس ما آلت إليه الأولى وتصبح هى الأخرى مصدراً من مصادر نشر الإرهاب وليس محاربته؟
الفشل الأول جعل أمريكا تتحدث الآن عن عملية عسكرية لا نموذج ديمقراطى تحمله معها ولا نظم مستبدة ستسقطها ويحل مكانها الخراب لا الرخاء، إنما هى عمليات عسكرية متتالية قد تطلب إنزال قوات أمريكية، قدرها البعض بـ25 ألف جندى ولفترة محدودة، أو دعم القوات العراقية بالسلاح والعتاد، ويترك لها مهمة القيام بتلك الهجمات مدعومة جواً من القوات الأمريكية والغربية.
والحقيقة أن القضية الحاكمة فى التعامل مع ظاهرة الإرهاب تكمن فى ضرورة النظر إليه باعتباره ليس فقط قضية أمنية، وهو أمر كرره الكثيرون بمن فيه صناع القرار فى أمريكا، فلا خلاف لدى أغلب الخبراء والسياسيين على أن الإرهاب ظاهرة مركبة تتطلب عملا مسلحا وأيضا عملا سياسيا وفكريا.
فالولايات المتحدة وحلفاؤها اعترفت، حتى فى ظل إدارة بوش المتطرفة، بأن هناك أسبابا سياسية واجتماعية وراء الإرهاب، وأعادت ذلك للنظم الاستبدادية العربية، فى حين أن العالم العربى بنظمه المستبدة اعترف أيضا بوجود أسباب سياسية للإرهاب، ولكنه أرجع ذلك إلى عدم حل القضية الفلسطينية، ومعايير أمريكا والغرب المزدوجة تجاه القضايا العربية، فى «خناقة» استمرت طوال عهدى بوش- مبارك.
وإذا كانت الحقيقة تقول إن السببين مثلا أحد أسباب انتشار الإرهاب، بجانب الانحراف الفكرى والدينى الذى تعاملت معه مصر بجدية فى الثمانينيات بحلقات النقاش المكثفة التى قام بها علماء أجلاء من الأزهر الشريف مع الشباب الجهادى فى السجون المصرية (بكل أسف).
وإذا كنا أقررنا من قبل بالأسباب السياسية والاجتماعية للإرهاب، حتى لو اختارت أمريكا الطريقة الخطأ لمحاربته، فلماذا والعالم يستعد لحرب ثانية على الإرهاب لا يطرح السؤال الحقيقى: لماذا انتشرت داعش؟ وهل ضربُها عسكريا سيحل مشكلة الإرهاب المتوطن فى العراق وسوريا، أم سيفتح الباب مرة أخرى أمام مجىء آلاف الجهاديين من أجل الحرب ضد الصليبيين والكفار والشيعة؟
السؤال الذى لم يجب عنه المجتمعون فى جدة أو باريس: كيف تحول سنة الأنبار وعشائر المناطق السنية من محاربين فى السنوات الماضية للقاعدة، والتكفيريين إلى متحالفين ولو فى جزء منهم معهم؟ أليست هى البيئة الطائفية التى خلقها نظام المالكى ودفعتهم إلى هذا التحول؟، والسؤال الثانى: هل يمكن أن تطرح مصر السؤال من جديد وبصورة مختلفة عما شاهدناه منذ بضعة أيام فى باريس بأن تعتبر أن شرط محاربة تنظيم داعش أو النجاح فى كسره سيبدأ حين تتغير البيئتان الاجتماعية والسياسية اللتان ساعدتا على انتشاره؟
يجب ألا يكون موقف مصر هو تكرار لموقف «المحافظين الجدد» فى أمريكا نتيجة الأزمة مع الإخوان، فالإرهاب لا يواجه بالكلام الحماسى، وبالقول إن العالم لم يقف معنا فى معركتنا ضد الإخوان والآن عليه أن يشرب مما شربنا منه، فهو كلام يمكن فهمه فى الإطار الدعائى والسجالى، ولكنه عملياً لا يحل مشكلة الإرهاب ولا يجعل مصر تلعب أى دور فى تغيير توازنات المنطقة.
إن مصر ليست طائفية، ونموذجها السياسى ليس نموذج بشار، وجيشها ليس الجيش السورى، وهى يمكن أن تتحرك فى مساحة البديل من داخل ما تبقى من الدولة السورية وليس داعش والتكفيريين وليس النظام الطائفى الحاكم فى الشام، ونفس الأمر فى العراق لن تنجح الحرب على داعش إلا بوقف تهميش السنة، ليس على أرضية طائفية، إنما بإعادة بناء الدولة العراقية على أسس وطنية بعيدا عن سيطرة الأحزاب الشيعية الطائفية.
محاربة البيئة الحاضنة التى أدت إلى انتشار الإرهاب يجب أن تكون هى عنوان أى حرب حقيقية على الإرهاب، وإذا أردنا للحرب الثانية أن تنتصر فيجب أن تسير عكس اتجاه الحرب الأولى، بتغيير البيئتين الاجتماعية والسياسية اللتين أفرزتا الإرهاب، لا محاربته بالسلاح، وترك كل عوامل نموه وانتشاره.