حين تفجرت أزمة التسجيلات المسربة منذ ما يقرب من عام أثارت ردود فعل غاضبة لدى الكثيرين، واعترض عليها قطاع واسع من الرأى العام، واعتبرتها قله أخرى أمراً عادياً لأن من حق الناس أن تعرف حقيقة ما يجرى من التليفونات حتى غرف النوم.
والمؤكد أيضا أن توقف برنامج «الصندوق الأسود» عقب إذاعته مكالمة مسجلة لأحد كبار رجال الأعمال، دلّ من ناحية على قوة نفوذ رأس المال وتضامن كل أصحاب القنوات الخاصة معه، وهو أمر لم يستطع أن تفعله عشرات الأسماء الأخرى التى أذيعت مكالماتها على الهواء مباشرة.
والمؤكد أن قطاعا واسعا من النخبة السياسية المصرية رفض فكرة إذاعة التسجيلات، وحاولت أطراف كثيرة إيقاف البرنامج من داخل حكومة الببلاوى المستقيلة وخارجها ولم تفلح، وظل الأمر متروكاً للاجتهادات الفردية والنفوذ الشخصى بعيدا عن أى قواعد تضعها الدولة لتنظيم الإعلام.
ولعل الأزمة الأخيرة التى تفجرت بعد إذاعة تسريب مكالمة تليفونية جديدة أدت إلى وقف بث البرنامج على الهواء مباشرة، وهو مشهد مستحيل أن تجده فى بلد آخر غير مصر، ثم تضامن أصحاب القنوات الخاصة التى يمتلكها رجال الأعمال فى مواجهه برنامج «الصندوق الأسود» ومنع أى بث جديد له عبر أى قناة أخرى، وهو أمر يجعلنا نطرح سؤالاً: أين الدولة من كل ما جرى ويجرى على الساحة الإعلامية؟
المدهش أن الجميع تحرك فى مواجهه البرنامج من أجل الدفاع عن مصالحه أو سمعته أو ما يراه اعتداء على حرمة الحياة الخاصة، إلا الدولة التى لم تتحرك، ووقفت قيادتها السياسية تتعامل بحياد غير إيجابى تجاه هذه القضية الخطيرة.
فالسؤال الجوهرى الذى يجب أن يطرح أولاً: هل بث هذه التسجيلات على الهواء مباشرة يعد حرية رأى وتعبير أم جريمة منافية للدستور والقانون، ويمثل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين؟ هذا السؤال هو الذى كان يجب أن تجيب عنه الدولة من اليوم الأول لبث هذه التسجيلات، ولا تنتظر أن نرى ما جرى فى الأيام الماضية من استهداف لأسماء بعينها أدى إلى وقف البرنامج، فى حين أن الطبيعى كان فى وضع قواعد قانونية ومهنية تنظم عمل الإعلام من خلال مجلس أعلى لتنظيم الإعلام كما نص الدستور، بعيدا عن اسم ومكانة أى شخص يأتى ذكره فى التسجيلات.
والحقيقة أن إذاعة التسجيلات على الهواء تعد من وجهة نظرى مخالفة صريحة للدستور والقانون (لم يعد لهما قيمة بالنسبة للبعض)، ولذا فإن هذا التقدير كان يجب على الدولة أن تحسمه بشفافية ووضوح ودون مواربة أو مراوغة مباركية، متصورة أنها بحيادها ستكسب الجميع، وهى فى الحقيقة ستخسر الجميع لأن الحاسم هو القاعدة القانونية المنظمة لعمل أى مؤسسة وعلى رأسها الإعلام.
نعم الدولة فى مصر، كما فى غيرها، تسجل على من تريد حين تريد، وجزء من احترام المصريين لدولتهم أنها حافظت على تقاليدها رغم ما أصابها من ترهل وفساد، ففى مصر قضاء به تقاليد محترمة حتى لو احتاج إلى إصلاح، وفى مصر شرطة وليس ميليشيات حتى لو ارتكبت تجاوزات، وفى مصر جيش وطنى عظيم حتى لو اختلف البعض على مساحة تدخله فى السياسة، ولذا فحين تسجل الدولة فى مصر لناس «تفضفض» طول عمرها فى التليفونات لأنهم يعرفون أن دولتهم ليست دولة القذافى ولا صدام حسين ولا بشار الأسد، فوثقوا فيها واستأمنوها على ما يقولون دون أن يتصوروا فى يوم الأيام أنه سيكون على الهواء.
المؤكد أن الخلط الذى حدث بين دور الدولة الغائب فى تحديد القواعد القانونية والمهنية لعمل الإعلام، والتى على أساسها سيتحرك كل الإعلاميين دون حجر على حرية الرأى والتعبير والتوجه السياسى لكل إعلامى أو صحفى أو كاتب، فمن حق البعض أن يرفض ثورة 25 يناير أو يرفض ما آلت إليه أو يعترض على سلوك وخطاب بعض النشطاء فلا توجد حصانة ثورية أو دينية لأحد، ولا أحد يطالب بأن نسبح جميعا بأى فعل إنسانى سواء كان 25 يناير أو 30 يونيو أو 23 يوليو، فكل تجارب مصر السياسية وثوراتها محل نقاش ونقد، وإن منع أى برنامج وفق التوجه السياسى لمقدمه أمر مرفوض جملة وتفصيلا.
إن عدم حسم الدولة قضية شائكة وصادمة مثل موضوع التسجيلات وحيادها غير الإيجابى تجاه هذه القضية عقّد الصورة، وجعل البعض يحول ما جرى إلى قضية حرية رأى وتعبير، وجعل إدارة القناة تخرج علينا بالقول إنها ترفض تحويل القناة لساحة للخلاف بين شخصين بعد أن تدخلت أطراف كثيرة مؤثرة بما فيها أجهزة الدولة للتعامل مع حلقة ولم تتدخل للتعامل مع حلقات، ولا من أجل تأسيس مبدأ أو قاعدة، وتركت الدولة الأمور تتفاقم لكى يصطدم الجميع بالجميع كما كان يحدث فى عهد مبارك، متصورة أن راحتها واستقرارها من خلال اللعب على تناقضات الجميع، صحيح أن هذه الطريقة نجحت لبعض الوقت حتى سقطت فى 25 يناير، ولكنها لن تنجح لأشهر فى أى نظام جديد لأنه تسلم بلدا مأزوما بلا قانون ولا قواعد ولا مهنية، ولن يحتمل الاستمرار فى هذه الحالة.
لم يجر نقاش من أى نوع بين المتخصصين وخبراء الإعلام حول القواعد المنظمة للإعلام، وما هو المسموح وغير المسوح قانونا وفق قواعد مهنية، وليس أن يحب الإعلاميون مصر وبعضهم البعض إلى أن جاءت الفأس فى الرأس وحدث ما حدث.
النقاش لابد أن يُفتح حول الإعلام، وأن يُحسم بالقول إن من حق الجميع أن يقول ما يراه دون سب أو قذف أو إهانة وفق القانون، ولا توجد حصانة لأحد ولا لحدث، إنما فقط هناك أعمال منافية للدستور والقانون على الدولة أن تحددها بوضوح وشفافية.