عمرو الشوبكي
قوة أى بلد فى التراكم الذى يُحدثه مع تاريخه ورموز مؤسساته، فيحافظ عليه ويصلحه عبر رحلة طويلة من النجاحات والإخفاقات، حتى يصل إلى نقطة توافق حول آلية التغيير السلمى والإصلاح.
والحقيقة أن تجارب الثورات العربية اتسمت تجارب النجاح فيها بأنها تلك التى حافظت على الدولة مثل تونس، وحتى التجربة التى تعثرت فيها عملية التحول الديمقراطى فإنها حافظت على دولتها الوطنية بما يعنى أنها تحمل من داخلها فرص الإصلاح والتقدم.
وعلى عكس ما تصور خطاب المراهقة الثورية بعد ثورة يناير، وهو يستدعى نظريات من متاحف التاريخ لإسقاط الدولة، فإن الحفاظ على الدولة بمؤسساتها ورموزها كان عامل نجاح حمى مصر من مصائر سوداء وليس عنصر فشل.
والحقيقة أن قضية تغيير عَلَم مصر التى أثارها البعض مؤخرا عكست ليس فقط خللا فكريا وسياسيا، إنما نفسيا أيضا، لأنها تطالب بتحويل ما هو ميزة إلى عيب وكارثة.
والحقيقة أن مطالبة بعض البؤساء بالعودة للعَلَم الملكى تنسى أو تتناسى أن عَلَم مصر القديم هو جزء من ذاكرة الشعب المصرى ووجدانه، ورفعه ثوار 1919 وكان فى قلوب رجال الحركة الوطنية المصرية بقيادة الوفد، وأن هذا العَلَم بقى بعد ثورة يوليو ولم يغيره الضباط الأحرار، بل استمر حتى عام 1958 أى عام الوحدة بين مصر وسوريا، وهنا ظهر عَلَم الدولة الجديدة محملا بأحلام العالم العربى فى الوحدة، وهى وحدة اندماجية بين دولتين تطلبت عَلَما جديدا.
إن ثورة يوليو والضباط الأحرار لم تربطها علاقة ثأرية بعَلَم الشعب المصرى القديم، فلم تقم بتغييره بشكل تلقائى كما حدث فى تجارب أخرى، إنما حافظت عليه باعتباره رمزاً للأمة والوطن، وحين تغيرت حدود الدولة، كان مفهوم الوحدة فى ذلك الوقت بعيدا عن المفهوم الذى اكتشفه العالم مع الوحدة الأوروبية، أى اتحاد يحفظ لكل دولة سيادتها وعَلَمها وبجواره عَلَم الاتحاد الأوروبى.
والعجيب أن مطالبة بعض الإخوان بالعودة للعَلَم الملكى تبدو وكأن علاقتهم بالنظام الملكى كانت طيبة، وأن مشكلتهم كانت مع عبدالناصر والحكم العسكرى الذى يقولون إنه استمر 64 عاماً (عبدالناصر والسادات ومبارك لا علاقة لهم بالحكم العسكرى)، والحقيقة أنهم دخلوا كما هى العادة فى مواجهات دموية مع الحكم المَلَكى، فاغتيل حسن البنا فى ظل الحكم المَلَكى، وقام التنظيم الخاص للجماعة باغتيال محمود فهمى النقراشى، رئيس وزراء مصر فى العصر المَلَكى، واغتالوا القاضى أحمد الخازندار، وحُلت الجماعة وحُظرت، وفجأة اكتشفوا أن العصر المَلَكى حلو نكاية فى النظام الحالى، والحقيقة هم أنهم يهينون الشعب المصرى بعَلَمه وتاريخه الوطنى وليس نظام حكمه.
والواقع أن قضية الحفاظ على العَلَم والسلام الوطنى لأى دولة هى مظهر صحة، وأن الحالات الوحيدة التى حدث فيها تغيير للعَلَم الوطنى كانت فى لحظات القطيعة الكاملة مع النظام القديم، وهو ما جرى فى لحظة الانتقال من النظام المَلَكى إلى الجمهورى، ومع ذلك فإن عبدالناصر احتفظ بالعَلَم المَلَكى، ولم يغيره إلا عقب الوحدة مع سوريا.
عَلَم مصر الحالى هو فخر لكل مصرى، وهو الذى رفعه الجيش والشعب فى انتصار 73 ورفرف على سيناء بعد تحريرها، وهو نفس العَلَم الذى رفعه الشباب فى يناير وفى يونيو وفى أى انتصار رياضى (على قلته) تحققه مصر.
الحفاظ على العَلَم والنشيد الوطنى هو قضايا فى الضمير الوطنى، وتغييرها هو صدمة لهذا الضمير، فمهما كان الخلاف مع نظام الحكم، فلا تَسْتَهِن بالشعب المصرى وتتحول إلى كاره للشعب والوطن قبل الدولة.