عمرو الشوبكي
مرت 3 سنوات على ثورة 25 يناير، وضاعت فرص كثيرة كان يمكن أن تضع مصر على طريق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والإصلاح السياسى، وخصم الجميع من رصيد الحدث الأعظم والأنقى والأنبل فى تاريخ مصر الحديث، وهو نزول الملايين فى ميادين مصر المختلفة طلباً للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
لم يطالب الناس برحيل مبارك وهم فى بيوتهم جالسون أو على المواقع الإلكترونية يناضلون، إنما كسروا حاجز الخوف، ونزلوا إلى الشوارع فى عز قوة «الداخلية» والأجهزة الأمنية، وقالوا «لا» فى وجه سلطان جائر.
«يناير العظيمة» هى حركة الناس العادية، وهم الشباب الذين قادوا فى 25 يناير وكنسوا الميادين فى 11 فبراير، وليس بالضرورة هؤلاء الذين أصروا على أن يفرضوا على الشعب المصرى نموذج «الثورة الدائمة» بالاحتجاج المستمر وبنظرية «يسقط الحكام السابقون واللاحقون»، وبتحويل الثورة إلى مهنة ووصاية على خلق الله.
والحقيقة أن الفرصة الأولى الضائعة بدأت منذ يوم 11 فبراير، حين قام شباب مصر الرائع بتنظيف ميدان التحرير فى صورة معبرة وغير مسبوقة فى تاريخ الانتفاضات الشعبية فى أى بلد فى العالم، معلنين انتهاء الفعاليات الاحتجاجية وبدء مرحلة البناء.
إن هذه اللحظة التاريخية عكست رغبة أغلب الناس فى إسقاط مبارك والقضاء على مشروع التوريث بالثورة والضربة القاضية، وتحقيق باقى مطالب الثورة بالنقاط والبناء وتقديم البدائل.
والحقيقة أن مصر كانت مهيأة تماما يوم 11 فبراير لكى تبدأ فيما عادت إليه الآن، أى بديل من داخل الدولة ومن خارج نظام «آل مبارك»، وكانت الناس مستعدة أن تقبل عمرو موسى أو كمال الجنزورى رئيسا، ولو كان الله قد أعطى العمر للراحل الكبير المشير أبوغزالة لكان قد تولى الرئاسة، «راجع مقالنا (قدر مصر الذى لم يأت) فى اليوم التالى لرحيل أبوغزالة»، وحل مكان مبارك بطلب شعبى.
إن حديثنا قبل الثورة عن الانتفاضة الشعبية التى تدفع الدولة للإصلاح والقضاء على مشروع التوريث كان هو فى الحقيقة ما جرى فى 11 فبراير حين انسحب أغلب الناس من الميادين، ثقة فى جيشهم الوطنى وقيادتهم العسكرية التى ارتكبت أخطاء جسيمة طوال تلك الفترة.
إن الفرص الضائعة لم تكن فقط فى مراهقة بعض الائتلافات الثورية، إنما فى ضعف المجلس العسكرى الذى تولى السلطة عقب سقوط مبارك، وأهدر فرصة تاريخية أمام مصر لو كان خرج من وصية مبارك ولو قليلا وتعامل بجرأة مع التحديات التى عاشتها البلاد منذ يوم 11 فبراير، فقد أفشل قادة المجلس العسكرى مشروع عمر سليمان نائبا بصلاحيات الرئيس لأسباب شخصية، (تماماً كما كان يفعل مبارك)، وكرر نفس الأمر مع أحمد شفيق، وفى نفس الوقت هو الذى قضى على فكرة عمرو موسى كرئيس انتقالى يحكم ولا يدير المرحلة الانتقالية، وهو الذى أسقط دستور 71، دستور الدولة المدنية المصرية، خضوعا لصراخ البعض، وناسيا أن الشعب أيد بنسبة 77% تعديل هذا الدستور، وأصدر بدلا منه إعلانا دستوريا باهتا وفاشلا قضى على ركن أساسى من أركان الدولة المصرية، وهو أيضا الذى قبل بضعف بالغ كل هذه الشتائم والإهانات التى مست الجيش المصرى بسبب أخطاء المجلس العسكرى.
إن تلك الإدارة الانتقالية التى فعلت الأصعب، وهو تسليم السلطة لرئيس إخوانى منتخب، تخلت عن واجبها فى وضع الأطر القانونية والدستورية لهذه السلطة، صحيح أن المشير طنطاوى لم يحاول أن يحتفظ بالسلطة، ولم يتآمر من أجل ذلك كما توهم البعض، لكنه أيضا لم يحرص على أن يضع أى قاعدة قانونية ودستورية تحكم العملية السياسية، قبل أن يسلم السلطة للإخوان، فدستور 71 معدل أو دستور جديد، وقانون عادل للانتخابات، وتقنين وضع الجماعة كلها كانت شروطا لابد منها لنجاح العملية السياسية.
المؤكد أن الفرصة الضائعة الكبرى هى غياب الوعى بأن الشعب المصرى ثار على «لا نظام» وليس نظاما بالمعنى الاستبدادى الذى شهدته بلاد كثيرة مثل أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية حين عرفت نظما شمولية وغير ديمقراطية، ولكن فى نفس الوقت دول قوية على عكس نظام مبارك الذى كانت الدولة الأمنية أحد مظاهره، لكنها لم تكن المظهر الرئيسى أمام حالة الفوضى والعشوائية والفساد التى شهدناها فى عهده.
إن ما جرى بعد 25 يناير كان مزيدا من الفوضى والعشوائية والاستباحة وربط بعض «الثورجية» نبل أهداف الثورة بالاحتجاج ودعاوى الهدم والتفكيك والإسقاط، ونقلوا صورة خاطئة للمواطن العادى أن ثورة 25 يناير تعنى فقط الاحتجاج والتظاهر والعنف حتى وضعت الدولة 260 ألف جندى وضابط لحماية المنشآت العامة والخاصة فى 25 يناير المقبل، فانفصل قطاع واسع من الشعب عن الثورة حتى استباحها الكثيرون.
الفرص الضائعة بدأت حين لم نعِ أن سقوط مبارك فى يوم 11 فبراير يجب ألا يكون طريقا لسقوط الدولة، وأن مهمتنا فى أعقاب ذلك هى إصلاحية بامتياز وليست هتافات ثورية وتظاهرات احتجاجية، فمطلوب دستور يعدل حتى نضع دستورا جديدا، وقوانين تغير وسياسيون يقودون، ولكن نظام مبارك الشائخ عجز عن أن يملأ الفراغ، وترك الباب مفتوحا أمام قوى الاحتجاج لكى تنمو وتتطور، وهى تفكك كل يوم ركنا من أركان الدولة، وتدعو لتسليم السلطة لرئيس مجلس الشعب المنتمى للإخوان، وتصرخ بأنه لا دستور تحت حكم العسكر، وتطالب بإسقاط الجميع: البرلمان والحكومة والجيش، والمدهش أن كل هؤلاء لم يقدموا بديلا واحدا ولم يعطوا «أمارة» بأنهم قادرون على إدارة «كشك سجائر» وليس دولة بحجم مصر.
معضلة ما بعد 25 يناير أن البعض لم يتصور أن ضعف دولة مبارك هو سبب مظهره القوى، فتمادى وتصور أنه فوق الناس والدولة، واستمر فى دعاوى الإسقاط والهدم وليس البناء وتقديم البديل.
وبقى الإخوان قابعين خلف جماعتهم يتحينون الفرصة لكى ينقضوا على السلطة، وهذا ما فعلوه حين وصلوا للحكم والبلد بلا دستور ولا قوانين انتخابية عادلة ولا جماعة مقننة، بعد أن أضعنا فرصة وضع شروط الدمج الآمن للتيارات الإسلامية: (دستور ونظام قانونى صارم)، وأضعنا فرصة «الثورة وسيلة للبناء» لصالح «الثورة الغاية والهدف».
علينا ألا نندهش حين يعطى الناس كل هذه الثقة لرجال الدولة فى مصر، وعلى رأسهم الفريق السيسى ومعه أسماء أخرى كعمرو موسى وغيره، ولو كان السيسى على رأس القوات المسلحة يوم 11 فبراير لكان قد قاد البلاد بعد سقوط مبارك بكل سلاسة وبدعم شعبى حقيقى، وبدأ معركة النقاط فى الإصلاح والتنمية.
علينا ألا ننسى أن مصر فى حاجة كل يوم إلى استدعاء قيم ومبادئ ثورة 25 يناير من أجل بناء نظام سياسى ديمقراطى وليس نظاما ثوريا على رأسه مرشح ثورى يعيد تكرار تجارب الحصانة الثورية الاستبدادية فى العالم.
كفى الفرص الضائعة، وعلينا أن نحول قيم الثورة وطاقة الشعب المصرى، التى تجلت فى 25 يناير و30 يونيو وفى الاستفتاء الأخير، إلى طاقة بناء وإصلاح حقيقى وجراحى لكل شىء من الدولة إلى المجتمع.
نقلاً عن "المصري اليوم"