عمرو الشوبكي
هناك مدخلان فى التعامل مع الوثيقة الدستورية الجديدة، الأول يفصلها عن الواقع السياسى المحيط بها ويطالب من كتبوها بأن يصوغوا وثيقة مثالية خالية من الشوائب كما جاء فى دستور الدنمارك والسويد وباقى الدول الديمقراطية، والثانى نظر إليها باعتبارها نتاج لحظة تاريخية صعبة، وبالتالى تفهم بعض أوجه القصور الموجودة فيها، واعتبرت الموافقة عليها خطوة مهمة لتجاوز هذه الظروف الصعبة.
والحقيقة أن رحلة التوافق على الوثيقة الدستورية تقدم خبرة مختلفة فى مجال الممارسة السياسية التى شهدناها بعد 25 يناير، فهى تلفت النظر أولاً إلى أن اعتراض أعضاء لجنة الخمسين على بعض مواد الدستور لم يدفعهم إلى رفض الدستور إنما أيدوه فى مجمله، وأرسوا بذلك تقليدا غاب عن حياتنا السياسية، وهو أن الاختلاف على بعض الأمور الجزئية لا يلغى النظرة الكلية، وأن الاعتراض على مادة أو أكثر لا يعنى رفض الدستور، وأن هذه الطريقة إذا سُحبت على الواقع السياسى الأكبر فإنها ستعنى أنه يمكن الاختلاف مع توجهات الدولة دون أن يعنى ذلك العمل على إسقاطها، وقد تعنى أيضا العمل على بناء تحالفات سياسية بين أحزاب وقوى مختلفة فى جزئيات، لكنها متفقه فى كليات، وهكذا.
أما المسألة الثانية فهى قدرة أعضاء لجنة الخمسين على التوافق فيما بينهم رغم تبايناتهم الفكرية والسياسية، فكل من قرأ بطاقة التعريف الخاصة بكل عضو من أعضاء لجنة الخمسين سيقول تلقائيا: «مستحيل يتفقوا»، ومع ذلك اتفقوا أو بالأحرى توافقوا، وهو أمر دلالاته فى غاية الأهمية، ويعنى أن الخلافات السياسية مهما اشتدت طالما يحكمها الصالح العام ولا تحكمها أجندات ومشاريع التمكين كما جرى مع الإخوان فإنها قادرة على التوافق وصناعة المستقبل.
والحقيقة أن التحدى الذى واجهته لجنة الخمسين كان فى قدرتها على كتابه دستور توافقى يعبر عن القيم الأساسية التى توافق عليها المجتمع والتيارات السياسية (ديمقراطية، مواطنة، مبادئ الشريعة الإسلامية، حقوق إنسان، مساواة) فى نصوص دستورية تنال رضا أغلب المواطنين.
والحقيقة أن إصرار معظم أعضاء لجنة الخمسين على التمسك بمواد التوافق مجتمعيا وسياسيا، واستبعاد مواد الشقاق يعد خطوة كبيرة للأمام مقارنة بما جرى فى دستور 2012 الذى ضرب بمعانى التوافق عرض الحائط لصالح دستور اللون الواحد، فمثلا المادة 219 فى الدستور المعطل، والتى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة، هو نص ليس محل توافق بين الأطياف السياسية والاجتماعية المختلفة، وبالتالى تحتم إلغاؤه، فى حين أن المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع محل توافق من التيارات الإسلامية والمدنية، وبالتالى بقيت ولم يختلف عليها أحد.
جانب آخر هو جرأة لجنة الـ50 على اتخاذ قرارات جراحية لم يجرؤ كاتبو دستور الإخوان على مسها مثل إلغاء نسبة الـ50% عمال وفلاحين بعد أن أعلن أعضاء اللجنة بوضوح رفضهم الطريقة التى مثل بها البعض العمال والفلاحين فى المجالس النيابية، وهو ما يعنى البحث عن وسيلة أخرى تمثل العمال والفلاحين بشكل صحيح فى المجالس المنتخبة، ومنها إنشاء حزب سياسى «عمالى» أو السماح بإنشاء نقابات عمالية مستقلة تدافع حقيقة عن مصالح العمال.
والمفارقة أنه فى ظل نسبة الـ50% عمال وفلاحين بِيع القطاع العام، وعرفت مصر طوال عهد مبارك كماً هائلاً من الاحتجاجات العمالية، فى نفس الوقت الذى فشل فيه مندوبو الـ50% فى الدفاع عن مصالح عموم العمال وحرصوا «غير مشكورين» على الابتعاد عن كل ما له علاقة بالدفاع عن مطالبهم وحقوقهم، واكتفوا بإجهاض مشاريع تأسيس النقابات المستقلة.
لقد اعتبرت اللجنة بجرأة أن نسبة الـ50% عمال وفلاحين وقفت ضد مصالح العمال والفلاحين بخلق طبقة من محترفى الانتخابات هدفها إبقاء النسبة لتظل هناك شريحة عازلة تفصل بينها وبين عموم العمال، فشهدنا ضباطا ورجال أعمال و«بهوات العمال» يدافعون عن هذه النسبة لأنها تضمن وجودهم على حساب تمثيل حقيقى للعمال والفلاحين فى المجالس النيابية المنتخبة.
لقد سهلت هذه النسبة مجىء عمال ليسوا بعمال، وفلاحين ليست لهم علاقة بالفلاحين، وتغييرها لم يكن فقط مطلبا ديمقراطيا، لكنه مطلب له علاقة بالاحترام والاتساق مع النفس ومحاربة التزييف والمتاجرة بهموم البسطاء.
أما قرار إلغاء مجلس الشورى فيمكن وصفه بالتاريخى، وعكس سلامة نيه أعضاء اللجنة ودفاعهم عن الصالح العام حتى لو أخطأوا فى أشياء، خاصة إذا قارناه بموقف الإخوان الذين تمسكوا ببقاء مجلس الشورى بعد أن سبقوا أن أعلنوا رفضهم له.
ويمكن وصف النقاش الذى دار داخل لجنة الخمسين حول إلغاء مجلس الشورى بالأهم والأعمق منذ سنوات، وتحدث فيه 24 عضوا نصفهم كان مع إلغاء الشورى والنصف الآخر كانوا ضد إلغائه، وأدار رئيس اللجنة عمرو موسى اللقاء بحيادية وموضوعية كاملة رغم أنه كان من أبرز المدافعين عن بقاء الشورى تحت مسمى جديد هو مجلس الشيوخ، وهو عكس وجهة النظر التى دافعت عنها داخل اللجنة منذ البداية.
الجانب الموضوعى فى آراء المدافعين عن مجلس الشيوخ كان يرى ضرورة وجود مجلس ثان يضم خبراء وسياسيين ذوى تعليم عال ليكونوا «عينا ثانية» على التشريعات التى تصدر من قبل مجلس النواب، حتى نضمن جودة التشريعات، وفى ذلك اقترح المؤيدون لبقاء مجلس الشورى أن تكون نسبة المعينين مرتفعة حتى وصلت لدى البعض إلى الربع أو الثلث.
وكانت وجهة نظرى أن التعيين من خلال سلطة لم تنل ثقة الناس مثلما جرى فى عهدى مبارك ومرسى سيكون كارثة حقيقية، وأنه يجب علينا أن نبدأ بانتخاب الأصل، أى البرلمان والرئيس، ثم بعد ذلك نبحث فى الفرع أى الشورى، أى بمعنى آخر أنه لا يجب أن نعطى الحق لسلطة لم تنل ثقة الناس بعد أن تشكل مجلس الشورى وفق أهوائها، فلا يمكن أن نجد بلدا ديمقراطيا دون مجلس نواب، فى حين يمكن أن نجد بلادا ديمقراطية كثيرة دون مجلس شيوخ.
إن الصراع الديمقراطى الذى دار فى لجنة الخمسين حول إلغاء مجلس الشورى (23 مع إلغائه و19 مع بقائه و1 ممتنع، و7 غائبين) نموذج غير متكرر فى حياتنا السياسية، فقد غابت عنه «التربيطات» الحزبية أو التوجيهات التى تأتى من أعلى لتنفذ، ففى لجنة نظام الحكم كان مقررها ضد بقاء مجلس الشورى ومقررها المساعد مع بقائه، وزميله فى حركة تمرد كان ضد بقائه، وممثلو الشباب الخمسة فى اللجنة كان 3 ضد استمرار الشورى و2 معه (أحدهما غاب عن الاجتماع)، وقادة الأحزاب اثنان كانا ضد بقاء الشورى وواحد كان مع بقائه، وبعض من صوتوا لعمرو موسى فى رئاسة لجنة الخمسين كانوا ضد رأيه، وبعض من صوتوا لسامح عاشور فى رئاسة اللجنة كانوا مخالفين لرأيه فى إلغاء الشورى.
ممثل القوات المسلحة امتنع عن التصويت وعبر عن حياد مؤسسته فى قضية اختلف عليها بعمق السياسيون، ممثل الشرطة صوت لصالح إلغاء الشورى، وهى كلها مشاهد كان يستحيل أن نجدها حين كانت القرارات المصيرية يجهزها مكتب إرشاد الجماعة، ومطلوب من الجميع تنفيذها دون أى مناقشة أو تغيير.
الدستور يمثل خطوة كبيرة للأمام حتى لو اختلف البعض على عدد من مواده، وإن من اعتاد أن يقول لا عليه الآن أن يعيد حساباته مرة أخرى.
نقلاً عن "المصري اليوم"