عمرو الشوبكي
نظريا كان نظامنا السياسى هو نظام شبه رئاسى، لأن هناك من الناحية الشكلية رئيس جمهورية ورئيس وزراء، وعمليا كان نظاما استبداديا بامتياز، لأن رئيس الجمهورية كان فى يده كل الصلاحيات وكان يعين رئيس الوزراء دون موافقته البرلمان (حتى عام 2007)، الذى كان يوافق على كل ما يقوله الرئيس.
فى النظم الرئاسية الكاملة الرئيس ونائبه ينتخبان من الشعب، والأول يعين الحكومة ويقيلها باعتبارها سكرتارية للرئيس، كما فى الولايات المتحدة، والبرلمان يراقب الرئيس والحكومة والسلطة التنفيذية، أما فى النظام شبه الرئاسى فلا يوجد فيه نائب للرئيس، إنما رئيس وزراء يأخذ جزءا من صلاحيات رئيس الجمهورية فى السياسة الداخلية، ويعينه الرئيس بعد موافقة البرلمان، ويبقى رئيس الجمهورية هو رأس السلطة التنفيذية ولديه صلاحيات واسعة فى مجال السياسة الخارجية والأمن القومى والدفاع.
والحقيقة أن فلسفة أى نظام سياسى- كما قلنا من قبل- تكمن فى قدرتها على فرض نصوصها (أو معظمها) على أرض الواقع لا أن تغرد فى الهواء الطلق بشكل منفصل تماما عنه، وهو ما يؤدى إلى تعثر النظام السياسى برمته ودفع فاعلين من خارجه للتدخل المباشر فى العملية السياسية فى محاولة لوقف الشلل والانهيار الذى أصابه.
وفى النظم الرئاسية، كما فى النظم شبه الرئاسية، يقوم البرلمان بمهمة التشريع والرقابة على أداء الحكومة، ويحق له سحب الثقة منها أو من أحد وزرائها فى ظل نظام صارم للفصل بين السلطات، وله الحق الكامل فى رفض قرارات الرئيس أو مشاريع قوانينه بأغلبية أعضائه.
والمؤكد أن الثقافة السياسية المصرية اعتادت على وجود رئيس وزراء، وإن كان عرف فى الفترة السابقة أنه «سكرتير للرئيس»، فإنه من المهم الآن تفعيل دوره ليأخذ جزءا من صلاحيات الرئيس فى الإدارة الداخلية، على أن يبقى الرئيس هو رأس السلطة التنفيذية وصاحب السلطة الأكبر.
والحقيقة أن تصور البعض أن مواجهة الاستبداد فى مصر تعنى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية يعكس جهلا كاملا بأبسط قواعد عمل النظم السياسية، ففلسفة النظامين الرئاسى وشبه الرئاسى تقوم على إعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية (غير مطلقة)، تقابلها ضمانتان رئيسيتان تضمنان، ولو نظريا، عدم انحرافه بالسلطة: الأولى الفصل الصارم بين السلطات، والثانية عدم تغول السلطة التنفيذية على باقى السلطات: التشريعية والقضائية كما كان يجرى فى العهود السابقة.
أما إذا قررنا تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية فهذا يعنى، بكل وضوح، ضرورة انتخاب الرئيس من البرلمان وليس من الشعب، لأنه حين ينتخب من الشعب فنحن بالضرورة أمام نظام رئاسى كما فى كل الدنيا، وحين ينتخب من البرلمان فنحن أمام نظام مختلط أقرب للبرلمانى.
النظام شبه الرئاسى أفضل لمصر وقد يساعد على بناء دولة ديمقراطية قوية.
والحقيقة أن مصر فى حاجة إلى نظام رئاسى ديمقراطى فى طبعته التى اصطلح على تسميتها عالميا بـ«شبه الرئاسى»، لأن ما عرفته مصر طوال 60 عاما لم يكن نظاما رئاسيا، إنما كان نظاما ثوريا فى عهد عبدالناصر، وفرعونيا وغير ديمقراطى فى عهد السادات، ومستبدا فى عهد مبارك، أما المطروح فهو اختيار نظام يساعد مصر على التحول الديمقراطى ويعمل على إعطاء فرصة للأحزاب السياسية لكى تساهم فى تحمل مسؤولية الحكم بالشراكة مع رجال الدولة من التكنوقراط الذين لم ينضموا للأحزاب وأثبتوا كفاءة ونزاهة طوال العقود الماضية.
النظام البرلمانى سيجعل الحكومة كلها من قيادات الأحزاب ومن حوارييهم، فى حين أن النظام شبه الرئاسى، الذى يتطلب موافقة البرلمان على تشكيل الحكومة التى يختارها الرئيس، سيعنى شراكة بين رجال الدولة، الذين لم نعرف غيرهم فى الحكومة طوال الفترة التى سبقت 25 يناير، مع رجال الأحزاب، الذين بدأوا فى الظهور وتقدم الصفوف.
فى بلد مثل مصر جهاز الدولة يضم أكثر من 6 ملايين موظف، وكان مفرخة لتربية الكوادر العظيمة والفاسدة، والصالحة والطالحة، وصمد رغم كل الضربات والتجريف التى تعرض لها طوال عهد مبارك، لا يمكن أن تتجاهل وجوده وقوته حين تبدأ عملية تحول ديمقراطى حقيقى.
لا يمكن تجاهل رجال الدولة ولا يمكن تجاهل رجال الأحزاب وإلا سنعيد إنتاج نظام مبارك إذا اعتمدنا فقط على الدولة، أو نبنى نظاما هشا وضعيفا إذا اعتمدنا فقط على الأحزاب الضعيفة، وهو سيفتح الطريق أمام «المخلص» أو المستبد العادل، وهو كان حلا فى الخمسينيات، ولكنه لم يعد مضمونا الآن فى أن يصبح حلا، فالأقرب هو الوقوع فى براثن الفوضى والفشل لعقود قادمة إذا اخترنا نظاما سياسيا «شكله حلو»- كما تقول بعض الكتب- ولا علاقة له بالواقع الحالى فى مصر.
يتصور البعض أن النظام الأمثل فى مصر هو نظام مختلط وينسى أو يتناسى أن أسوأ النظم السياسية التى يمكن أن تعرفها مصر هو ذلك الذى يفترض أن النظام الأمثل هو الذى يأخذ من كل نظام زهرة أو قطعة ويصنع خلطته غير السحرية التى تكون أقرب إلى المصطلح المصرى الشهير «سمك، لبن، تمر هندى»، فتخلق نظاما عاجزا عن الإنجاز والعمل.
نظريا لا يوجد نظام مختلط، إنما نظام أقرب للبرلمانى أو الرئاسى، حتى لو وضعنا قبلهما كلمة مختلط، فلابد أن تكون للنظام هوية محددة وتعبير «برلماسى» هو اختراع مصرى غير موجود فى بلد آخر فى العالم.
صحيح هناك خوف من مرارات النظم السابقة التى ادعت أنها رئاسية وكانت نظما استبدادية بامتياز، فتصور البعض أن الحل فى القضاء على صلاحيات رئيس الجمهورية أو اقتسام سلطته مع رئيس الوزراء، وهو أمر غير موجود فى فرنسا التى تعرف نظاما شبه رئاسى، فرأس السلطة التنفيذية هو رئيس الجمهورية وليس رئيس الوزراء، لأن فلسفة النظام الرئاسى لا تقوم على إضعاف السلطة التنفيذية وانقسامها بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، إنما فى التوازن بين السلطات الثلاث، والحفاظ على صلاحيات الرئيس وقدرته على الفعل والحركة ومساءلته وحسابه أيضا.
نظريا النظام شبه الرئاسى أفضل لمصر، وعمليا الأمر يحتاج إلى قواعد قانونية وإرادة سياسية لإعمال النصوص الدستورية على أرض الواقع، فالدساتير العظيمة لم تصنع بمفردها نهضة الشعوب، إنما الممارسة العملية واحترام الدستور والقانون.
نقلاً عن "المصري اليوم"