عمرو الشوبكي
تركز الحديث عن تيارات الإسلام السياسى قبل الثورات العربية على إمكانية دمج هذه التيارات فى العملية السياسية، وكيف يمكن تحويلها إلى تيار سياسى يقبل بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ودار جدل واسع حول إمكانية تغيير هذه التيارات، وهل هى قابلة للديمقراطية أم تمثل تهديداً للديمقراطية، وإلى أى حد تتحمل مسؤولية تعثر التجارب الديمقراطية فى العالم العربى، وما هى حدود مسؤوليتها ومسؤولية النظم القائمة؟
وعاد السؤال وطُرح بعد ثورات الربيع العربى بصورة مختلفة، وأصبح: هل يمكن لهذه القوى أن تحمل الديمقراطية للشعوب العربية، أم أنها ستؤسس لديكتاتوريات سياسية ستحكم البلاد بالحديد والنار؟
والحقيقة أن ثورة 25 يناير فاجأت كثيرا من القوى السياسية، ومنها التيار الإسلامى، فرغم أن هذا التيار ظل فى المعارضة لسنوات طويلة وتعرض لاضطهاد واسع من قبل النظم السياسية المختلفة، ربما فاق ما تعرضت له فصائل ثورية أخرى، إلا أن جماعاته الرئيسية، سواء الإخوان المسلمون أو التيار السلفى، ظلت جماعات محافظة بدرجات متفاوتة، وشاركت فى الثورة بعد أن أطلقها شباب التيارات المدنية.
ومع ذلك نجح مرشح الجماعة، د. محمد مرسى، فى الوصول للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وبقى فى السلطة عاما كاملا عمّق فيه من جراح المصريين ومشاكلهم وانقساماتهم، حتى وصف البعض المشهد المصرى عشية سقوط مرسى بأنه كان على مشارف حرب أهلية حقيقية لم تعرفها مصر منذ عقود طويلة.
وبسقوط حكم مرسى أو «المرشد»، كما هتف كثير من المصريين، فُتح الباب لمناقشة مستقبل جماعة الإخوان المسلمين، وطُرحت سيناريوهات عديدة بعضها تحدث عن نهاية الجماعة، والبعض الآخر تحدث عن عودتها القريبة، والبعض الثالث طرح إمكانية عودتها فى صيغة قانونية جديدة، وفى كل الأحوال فإن ما أصاب مرسى أصاب الجماعة، وإن سقوطه كان سقوطا لها، وفشله كان فشلا لمشروعها.
والحقيقة أن سقوط حكم الجماعة فتح الباب أمام مناقشة الفرضية الكبرى فى قراءة التيارات الإسلامية، والتى تقول إنها تيارات بحكم بنيتها الفكرية والتنظيمية غير قابلة لتبنى الديمقراطية، وإنها لأسباب هيكلية ستظل معادية للديمقراطية وللحريات العامة ولقيم المواطنة، حتى لو ادعت فى بعض المراحل غير ذلك، لأن موقفها الدفين هو رفض الديمقراطية، وأنها حين تصل للسلطة لن تسمح مطلقا بتداولها.
فى مقابل هذا الرأى ظل هناك اقتراب آخر يرى أن مشكلة التيارات الإسلامية غير التكفيرية هى مشكلات تتعلق أساسا بالسياق السياسى المحيط (حتى لو أقر بوجود مشكلات عقائدية فى فكرها)، وأن هناك كثيرا من التجارب التى نجحت فى دمج التيارات الإسلامية فى العملية السياسية وتحويلها لتيارات ديمقراطية تؤمن بالتعددية السياسية والمواطنة ودولة القانون.
والسؤال: أين تقع التجربة المصرية بين هاتين الرؤيتين، وهل فشل الجماعة يرجع إلى أسباب عقائدية تتعلق برؤيتها الفكرية والتنظيمية أم إلى طبيعة السياق السياسى المحيط بها، والذى لم يضع أى شروط لدخولها فى العملية السياسية تفرض عليها احترام الديمقراطية، أم إلى مزيج بين الاثنين كما نرجح؟
قد تكون هى إحدى مفارقات ثورات الربيع العربى أن تنجح القوى الأكثر محافظة والأقل ثورية فى الوصول إلى سدة الحكم، خاصة فى مصر وتونس، فى حين أن القوى التى وصفت نفسها بالثورية ظل كثير منها أسير شعارات وفعاليات ثورية احتجاجية حالت دون أن يكون بناؤها بديلا سياسيا مقنعا لعموم المصريين وقادرا على أن يؤسس لمشروع سياسى جديد.
وقد ظلت جماعة الإخوان المسلمين أسيرة المرحلة التأسيسية الأولى التى قادها الإمام المؤسس حسن البنا، وظلت حاكمة لحركة الجماعة منذ تاريخ نشأتها عام 1928 حتى وصولها للسلطة فى 2012، رغم تغير الأساليب والأولويات التى استخدمتها فى كل عصر، إلا أنها ظلت أسيرة لهذا التداخل بين الجماعة الدعوية والسياسية، وبين الدفاع عن العقيدة ونشر الدعوة الإسلامية، والعمل السياسى والحزبى.
وعكس عمر الجماعة الممتد لما يقرب من 85 عاما قدرة فكرية وتنظيمية خاصة ميزتها عن باقى القوى السياسية الأخرى، ساعدتها على الاستمرار، وامتلكت خطابا سياسيا عاما وكفاءة إدارية وانضباطا تنظيميا، سمحت لها بالانتشار الدينى والسياسى، وتقديم خدمات اجتماعية متعددة للمواطنين.
وظل وضع جماعة الإخوان المسلمين فى مصر غامضا ومثيرا للحيرة والجدل حتى بعد وصولها للسلطة، فرفضت أن تقنن وضعها القانونى مثلها مثل باقى الجمعيات الأهلية، وحافظت بمحض إرادتها على لقب الجماعة المحظورة، فظلت فوق الدولة وفوق القانون رغم وصولها للسلطة فى مفارقة تبدو صادمة.
ولعل من المهم الإشارة إلى تفرد تجربة حكم الإخوان فى مصر مقارنة بتجارب أخرى للتيار الإسلامى، ففى تونس، على سبيل المثال، تنازلت حركة النهضة عن وزارتى الداخلية والخارجية اللتين كان وزيراهما ينتمى للحركة، وفى مصر زاد عدد أعضاء الوزراء الذين ينتمون للإخوان على مدار عام من حكمهم، رغم أن مطالب المعارضة كانت تغيير الحكومة.
إن الفارق الواضح للعيان بين تجربة «إخوان تونس» و«إخوان مصر» أن الأولى يوجد بها حزب ينتمى لمدرسة الإخوان اسمه حركة النهضة، ولديه أغلبية فى المجلس التأسيسى، ولكن لا توجد جماعة غير قانونية تحركه من وراء الستار اسمها جماعة الإخوان المسلمين كما فى مصر، ويوجد رئيس واحد لحركة النهضة هو راشد الغنوشى ولا يوجد له مرشد ولا نائب مرشد ولا مكتب إرشاد يصدر له توجيهات مطلوب منه أن يلتزم بها.
ولعل معضلة ثنائية الجماعة التى تحكم والحزب الذى ينفذ هى التى دفعت قطاعا واسعا من المصريين إلى أن يلفظ حكم الإخوان ويرفضه ويعتبره مرادفا للسرية وعدم الشفافية.
المدهش أن الإقصاء الذى تعرض له الإخوان فى عهد مبارك تحول بعد وصول الجماعة للسلطة- وعلى عكس تجارب أخرى- إلى طاقة كراهية وانتقام بحق الدولة والشعب، نتيجة انغلاق التنظيم الإخوانى على نفسه وبنائه على أساس الولاء المطلق والثقة المطلقة فى القيادة.
لقد لعب تنظيم الجماعة القوى والمغلق دورا كبيرا فى شعور قطاع واسع من المصريين بالغربة عن حكم الجماعة، بعد أن اختارت الأولى أن تتعامل مع الدولة والمجتمع بمنطق الجماعة الوافدة، وأرجعوا مشاكلهم «للإعلام المضلل» ومؤامرات الخارج، ونسوا أن قوة التنظيم الذى أوصلهم للحكم كانت هى الطريق الذى أخرجهم منه.
ولذا من المهم التمييز بين مستقبل جماعة الإخوان المسلمين ومستقبل تيارات الإسلام السياسى، لأن خصوصية تنظيم الجماعة لا تنسحب على باقى التيارات الإسلامية، فلو عادت الجماعة يوم ما فستكون وفق شروط الدولة الوطنية الحديثة والدستور المدنى الذى يحظر على الجماعات الدينية والدعوية ممارسة العمل السياسى، أما بالنسبة للأحزاب الإسلامية الأخرى، فالأمر يختلف بلا أدنى شك لأنه سيعنى التزامها بقانون الأحزاب وبالقواعد الديمقراطية، لأنها متخلصة من فكرة الجماعة الأممية المغلقة مثلما هو الحال فى جماعة الإخوان المسلمين.
صحيح هناك من يتصور أن النجاح الحقيقى هو فى حظر التيارات الإسلامية وإلغاء وجودها بنص دستورى أو قانونى، وهذا فى الحقيقة ليس بنجاح، فالنص الدستورى والقانونى يحظر الأحزاب الدينية والطائفية، وتلك التى تحرض على العنف والطائفية، ولكنه لا يمكن أن يحظر حزبا يعتمد على فكرة مهما كان رأينا فيها، أو يقول إن مرجعيته هى مبادئ الشريعة الإسلامية كما تنص المادة الثانية من الدستور.
هناك من يتصور، واهما، أنه يمكن القضاء على تيار أو فكرة بالحظر أو المواجهة الأمنية، والواقع أن فى مصر قوى وبنى اجتماعية كثيرة محافظة، وأن تيار الإسلام السياسى كان أحد تعبيراتها، والتحدى هو كيف يترجم هذا التعبير فى أحزاب سياسية مدنية وديمقراطية، وهو تحدٍ واجهه كثير من المجتمعات، ونجح بعضها فى ذلك مثل تركيا والمغرب وربما تونس، وفشل بعضها الآخر كمصر والعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها.
ومن هنا فإن الحل ليس فى كيفية ابتكار الوسائل الأمنية والقانونية لحظر هذا التيار الذى يمتلك قاعدة اجتماعية مؤكدة، إنما فى إبداع وسائل سياسية وقانونية تفرض على هذا التيار مثل غيره احترام الدستور والقانون.
نقلاً عن "المصري اليوم"