عمرو الشوبكي
كثير منا يتحدث عن عودة نظام مبارك، والبعض الآخر يتخوف من عودة الدولة الأمنية، والبعض الثالث يتحدث عن أن 30 يونيو قامت لشطب 25 يناير، وافترض بعضنا أن النظام الذى يخاف من عودته قد ذهب فعلا مع سقوط مبارك.والحقيقة أن ما جرى فى مصر بعد ثورة 25 يناير كان سقوطا لرأس النظام، وتصور البعض أنه يمكن فقط بالفعاليات الثورية والصوت الاحتجاجى تحقيق أهداف الثورة فى العيش والحرية والكرامة الإنسانية، ونسينا أن المرحلة الثانية والأساسية فى نجاح أى تجربة تغيير تتوقف فى القدرة على بناء نظام جديد يفكك بشكل تدريجى مرتكزات النظام القديم.والحقيقة أن تصور البعض أن النظام القديم قد عاد، رغم أنه لم يذهب، يرجع إلى وجود تصور بأن معيار النجاح يتمثل فى استبعاد رموز مبارك ورموز مرسى، وأن النظام الجديد يعنى فقط جلب وجوه جديدة شاركت فى الثورة أو حسبت عليها، حتى لو لم تكن لديها أى رؤية لإصلاح المؤسسات القديمة وبناء بديل جديد.والواقع أن القلق من عودة بعض من شاركوا فى العمل العام فى عهد مبارك إلى مواقع السلطة الجديدة فى مصر لا يعنى فى الحقيقة عودة النظام القديم، الذى بقى من خلال استمرار المنظومة القديمة التى لم يغيرها أحد، ولا كون عودة الدولة لممارسة دورها يعنى عودة الدولة الأمنية، فهذه العودة جاءت بعد غياب وضعف غير مسبوق فى التعامل مع الخارجين عن القانون والبلطجية، أو حملة الحجارة والمولوتوف، أو حملة السلاح الآلى وحارقى الكنائس والمنشآت العامة والخاصة، وأن عودتها صارت أملا لدى كثيرين بعد أن رأوا الميليشيات الإخوانية تحاول أن تحل مكان الشرطة (أو تأتى على أنقاضها)، وشعروا بخطر السقوط الحقيقى فى عصر لا دولة ولا حكم.إن عودة النظام القديم ليست مرتبطة بعودة الدولة للقيام بمهامها، حتى لو قامت بهذه المهام بطريقة قريبة من الطريقة القديمة (لم تعرف غيرها)، إنما تتمثل فى الفشل فى إنجاز توافق سياسى من أجل البدء فى عملية إصلاح جراحى وحقيقى لمؤسسات الدولة، فيما عرف فى التجارب الناجحة بـ«الإصلاح المؤسسى».والمؤكد أن تصور البعض أن سقوط نظام مبارك الشائخ أو ما سبق وسميته «لا نظام» هو نهاية المطاف، واعتبار الثورة هدفا وليس وسيلة لتحقيق إصلاح سياسى وتقدم اقتصادى، وتصور أن مصر حققت كل أهدافها باستمرار الصوت الاحتجاجى (شرعية الميدان والثورة مستمرة) دون امتلاك أى قدرة على بناء بديل سياسى، لن يحقق أى تغيير.والمؤكد أن أحد العوامل الرئيسية وراء الانتصار السهل للثورة المصرية يكمن فى ضعف وهشاشة نظام مبارك، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التى فرضها على البلاد 30 عاما، وأن كل قيادات نظام مبارك، بمن فيهم قادة المؤسسة الوحيدة المتماسكة (الجيش)، كانوا قد تجاوزا سن السبعين وبقوا جميعهم فى أماكنهم مرؤوسين لمبارك 20 عاما، ما جعل شرعيتهم فى الشارع محدودة وقدرتهم على المبادرة معدومة، وهو أمر مستحيل أن تجده فى تجربة أخرى فى العالم، فديكتاتوريات أمريكا اللاتينية العسكرية الأكثر قسوة، بما لا يقارن من نظام مبارك، عرفت أنظمة قوية فيها قيادات صف ثانٍ وثالث دعمت بقاءها حتى النهاية وتفاوضت بشراسة مع قوى التغيير الجديدة، كما أن تجارب أوروبا الشرقية والبرتغال وإسبانيا كانت لحظة التحول الديمقراطى فى وضع شبيه بمصر فى الستينيات (وليس فى عهد مبارك)، أى هناك نظام سلطوى ودولة قوية بها مؤسسات تعمل وتعليم جيد وصحة معقولة وجهاز إدارى فيه حد أدنى من الكفاءة ودولة مليئة بالأسماء اللامعة والكفاءات القادرة على أن تقود البلاد نحو نظام جديد.إن «لا نظام» فى عهد مبارك كان أقل استبدادا من النظام التونسى أو الليبى أو السورى، وتجلت «خيبته» فى إضعاف الدولة وتخريبها فى التعليم والصحة والإعلام والأمن والمواصلات والزراعة والصناعة، بحيث من المستحيل أن يحدث إصلاح حقيقى دون أن تنتقل مصر من حالة «لا نظام» إلى النظام.وجاء حكم الإخوان الأكثر «نظاما» وتنظيما من باقى القوى السياسية، ولم يهتم إلا بتغيير من هم على رأس السلطة، فأخرج رموز نظام مبارك ووضع رموز الإخوان، وزرع رجاله فى كل المؤسسات، وأدار معركة التمكين وليس الإصلاح، فكان سقوطه مدويا بعد أن رفضه الشعب والدولة معا.إن تجربة الإخوان مع الدولة المصرية تدل على عدم فهم كامل لطبيعتها، فقد حرصوا، منذ اليوم الأول، على أن يكون لهم كيانهم الخاص و«دولتهم الموازية»، تمهيدا للانقضاض على الدولة الأصلية، وبنوا ذاكرة تاريخية خاصة واجهت الذاكرة الوطنية المصرية من سعد زغلول ومصطفى النحاس وحزب الوفد، مرورا بثورة يوليو وجمال عبدالناصر، وانتهاء بنصر أكتوبر وأنور السادات.والحقيقة أن وجود جماعة بهذه المواصفات العقائدية والمرارات التاريخية، وبقيت خارج المنظومة السياسية السائدة لما يقرب من 85 عاما، وحين فتح الله عليها بالوصول للسلطة فى ظرف استثنائى من الصعب أن يتكرر سارت فى عكس الطريق الذى كان يجب أن تسير فيه، وأدارت معركتها مع الدولة والمجتمع بصورة انتقامية وإقصائية واضحة، وكان بقاؤها فى السلطة مرادفا لاستمرار النظام القديم، لأنها غيرت فى القشور والوجوه لا فى العمق والمضمون.ورغم أن الجماعة حولت خطابها بعد أن وصلت للسلطة من جماعة محافظة إلى ثورية فى مشهد غير مسبوق فى أى تجربة أخرى فى العالم، فالثوار يكونون كذلك قبل الوصول للسلطة وليس بعدها، والمفارقة أن الإخوان لم يصبحوا ثوارا بعد الثورة مثل البعض، إنما ثوار بعد السلطة، وهو أخطر وأسوأ أنواع الحكم، لأنه يصبح مجرد مبرر لتكريس الاستبداد لأن يُعتبر المعارضون من الثورة المضادة، والدولة يجب تطهيرها من الفلول والفاسدين (أى من غير الإخوان)، وهى كلها مسارات بناء الدول المستبدة تحت دعاوى الشرعية الدينية أو الثورية.يجب ألا نكرر مسار الإخوان ونضع البلاد أمام فشل ثانٍ بإعطاء حصانة استثنائية لأى فصيل، تارة باسم الدين، وتارة باسم الثورة، وتحويل تحدى إصلاح المؤسسات القديمة إلى صراع على السلطة ملتحفا بشرعية ثورية، وليس بشرعية الدستور والقانون، ومتواطئا فى بعض الأحيان مع مرتكزات الدولة القديمة، وهو ما سيعيد حتما إنتاج تجربة الفشل الإخوانى مرة أخرى.إن النظام القديم لم يعد مع تدخل الجيش فى 3 يوليو، لأنه لم يذهب أصلا، وإن تنحى مبارك فتح الباب أمام بناء نظام جديد، ولا يعنى بالضرورة أننا سننجح فى بنائه، حتى لو أقصينا كل رموز الإخوان وكل رموز مبارك، فالمهم هو امتلاك القدرة على بناء مشروع جديد يمثل بديلا حقيقيا لنظام مبارك الذى أبقانا فيه حكم الإخوان وفهم البعض لمعنى الثورة، ولم تعدنا إليه 30 يونيو.