مصر اليوم
لفت صديقنا د. مصطفى النجار نظرى لمقال الكاتب والأكاديمى الكبير د. جلال أمين فى صحيفة «الشروق» فى 4/5/2012 تحت عنوان «أسئلة بلا أجوبة»، ورغم أن اجتهادات الرجل وقدرته على التفكير خارج الصندوق، وخارج طريقة التفكير السائدة كانت ملمحاً رئيسياً فى كثير من كتاباته، سواء قبل الثورة أو بعدها، وبصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف معها.
والحقيقة أن المستغرب فى هذا المقال أن جلال أمين كان فى مواجهة جلال أمين، وأن الأسئلة التى طرحها هو نفسه سبق أن أجاب عن جانب منها فى كتابات أخرى، سواء كتابه الأشهر «ماذا حدث للمصريين؟» أو مقالات صحفية أخرى منشورة للكاتب، وتحدثت عن مظاهر مجتمعية جديدة لو وضعها بجوار بعضها لفسرت جانباً كبيراً من أسئلته.
والحقيقة أن تعليق «النجار» فى مقاله بنفس الصحيفة ( 10/4/2013) تحت عنوان «صفعة على وجه الثورة» قد ردّ على جانب مهم من أسئلة الكاتب، خاصة ما يتعلق بشباب الثورة، وعدم تواصله معهم، ودعاه للاستماع إليهم قبل إلقاء هذه الأحكام التى تعكس عزلة جيلية، وعدم تقبل جيل بعينه لطريقة جديدة فى العمل السياسى عبّر عنها وائل غنيم وتيار واسع من شباب الثورة، حين خرجوا عن القوالب والأيديولوجيات المغلقة والتنظيمات والدكاكين السياسية الضيقة، أو بتعبير «النجار»: هل كان مطلوبا أن «يحملوا البازوكا والكلاشينكوف حتى يتأكد من ولائهم الوطنى»؟
والحقيقة أن هناك جانباً آخر فى أسئلة د. جلال أود التعليق عليها، لأنها مرتبطة بأحداث مازالت تداعياتها مؤثرة علينا حتى الآن، وقال فيها: «لقد ابتهجنا بشدة بامتناع الجيش عن ضرب الثوار حتى سقط الرئيس، بل بدا أن قادة الجيش قد لعبوا دورا مؤكدا فى الضغط على الرئيس للتنحى عن منصبه، ولكن لماذا قام المجلس العسكرى، بعد تسلمه الحكم، بهذه التصرفات الغريبة التى لا تنسجم بالمرة مع روح الثورة وأهدافها، التى افترضنا أن المجلس العسكرى يتعاطف معها؟ ما هذا الاختيار الغريب لرئيس وزراء، واحداً بعد آخر، لا يعبر أى منهما عن روح الثورة، أحدهما كان عضوا بلجنة السياسات فى النظام السابق، والآخر كان رئيسا للوزراء فيه، مع تمسك المجلس العسكرى بكل منهما لمدة أطول بكثير من صبر الناس واحتمالهم؟ لماذا رفض المجلس العسكرى اقتراحا وجيها بتكوين مجلس رئاسى يضم بعض المدنيين الذين يتمتعون بثقة الناس؟ أما الترشيحات لرئاسة الجمهورية فلم تكن أقل مدعاة للدهشة، لماذا لم يضبط أمر هذه الترشيحات، وترك من هب ودب ليرشح نفسه، ولماذا يدفع البعض إلى الترشح، ثم يدفع البعض إلى الانسحاب؟».
والحقيقة أن هذه التساؤلات المشروعة تتجاهل طبيعة نظام مبارك، ومازالت أسيرة لقراءة جيل د. جلال، وربما جيلى (وليس بالضرورة جيل الشباب) لصورة الدولة المصرية فى الستينيات التى شهدنا عكسها فى التسعينيات، فالكاتب افترض هنا أن نظام مبارك الذى استمر فى الحكم من خلال المجلس العسكرى هو نظام منضبط لديه رؤية وتصور استراتيجى، وأنه يعى معنى الثورة، أو الثورة المضادة التى اتهمه بها البعض، أو أنه يفهم ماذا تعنى الدولة المدنية والقيم والقواعد الدستورية التى يجب أن يتفق عليها المجتمع، قبل تسليم السلطة لأى فصيل سياسى.
«وصية مبارك» التى سار عليها المجلس العسكرى (عنوان مقالى المنشور فى «المصرى اليوم» فى 11/7/2011) كانت عبارة عن الالتزام بدولة عشوائية و«لا نظام»، دولة تغيب عنها القيم والقانون، وعاش فى ظلها المشير طنطاوى مرؤوساً لمبارك 20 عاما، فهل ينتظر من هذه الدولة أن تفكر من الأصل فى هذه القضايا بشكل تآمرى (راجع مقال «ليتهم متآمرون» فى «المصرى اليوم»)، فنحمد الله أن الجيش كمؤسسة أفلت من الانقسام والتفكك مثلما جرى لمعظم مؤسسات الدولة، وحافظ على تماسكه، وهو الإنجاز الوحيد الذى يحسب لتقاليد الجيش العريق والدولة المصرية التى أضعفها نظام مبارك وأهانها.
مدهش أن نندهش من تصرفات المجلس العسكرى التى لا تعبر عن «روح الثورة»، والأدق لا تعبر عن أى عقل ومنطق، فلم يكن مطلوباً منه أن يعبر عن روح الثورة، إنما فقط يضع القواعد القانونية والدستورية التى تفتح الباب لمجىء من يعبر عن روح الثورة، وحتى لو جاء من لا يعبر عنها، فسيكون الشعب قادراً من خلال قواعد قانونية ودستورية عادلة أن يغيره بالصندوق.
مدهش أن نندهش من أداء المجلس العسكرى، وهو الحارس الأمين لدولة مبارك ومؤسساتها السيادية التى تغنّينا بها لفترات طويلة، واكتشفنا بالأمس القريب كيف ترك مواطنين غير مصريين يقتحمون السجون بكل سلاسة، ويُهَرِّبون 26 ألف معتقل، وينتهكون سيادة البلد وهم يتفرجون، صحيح أن الشرطة انهارت، ولكن أين كان الجيش والمخابرات العامة اللذان لم يستطيعا حماية الحدود، وتركا البلد مستباحاً لكل من هب ودب؟
لم تكن مشكلة المجلس العسكرى أنه لم يعبر عن روح الثورة، إنما حتى عن روح العسكرية المصرية وشموخها وقادتها الكبار، فقد أهدروا فرصة تاريخية أمام مصر، لو كانوا خرجوا من وصية مبارك ولو قليلاً، وتعاملوا بشجاعة مع التحديات التى عاشتها البلاد، منذ يوم 11 فبراير، فـ«طنطاوى» هو الذى أفشل مشروع عمر سليمان، نائباً بصلاحيات الرئيس، لأسباب شخصية (تماماً كما كان يفعل مبارك)، وكرر نفس الأمر مع أحمد شفيق (دون أن يزوّر ضده كما يتوهم البعض)، وفى نفس الوقت هو الذى قضى على فكرة محمد البرادعى أوعمرو موسى أو غيرهما كرؤساء للمرحلة الانتقالية، بدلاً أو حتى بالشراكة مع المجلس العسكرى. وقد فعل ذلك بجهوده الشخصية وليس بأوامر أمريكية كما يتخيل البعض، لأن هذه الأمور لم تكن تفرق مع أمريكا، بل على العكس كانت ستحقق مصالحها بصورة أكبر بدلاً من حالة الفوضى والسيولة الحالية.
مدهش أن نندهش من تصرفات المجلس العسكرى التى دفع ثمنها 85 مليون مصرى (بمن فيهم إخوان الحكم)، ودمرت المرحلة الانتقالية، وساهمت فى وضع أساس مشوه لتجربة التحول الديمقراطى، فهم نتاج عصر كامل من الفشل والتجريف، ليس لأن هناك مؤامرة أمريكية على الثورة، ولا لأن الأخيرة صنعتها أمريكا وفق نظريات المؤامرة القاصرة، إنما بسبب الخيبة الثقيلة والضعف والوهن وجمهورية العواجيز والفشلة التى تركها مبارك لحظة تنحيه.
إن هؤلاء لم يشعروا للحظة بأن هناك قيماً ومبادئ للدولة الوطنية الحديثة يجب احترامها، مهما كانت الضغوط، وأن هناك قواعد لمدنية الدولة يجب الالتزام بها، قبل الدخول فى حلبة الصراع السياسى، فسلموا البلد، تسليم مفتاح، لتيار ظل فى صراع ممتد مع الدولة، دون أن يطالبه أحد باحترام أى من قواعدها، وهو أمر كان سيصبح فى حال حدوثه فى صالح الإخوان وليس فقط فى صالح عملية التحول الديمقراطى، لأن معارضيهم لم يكونوا سيرونهم محتكرين للسلطة، يُفَصِّلون القوانين على مقاسهم، ويضعون قواعد اللعبة السياسية من أجل بقائهم الدائم فى السلطة. وهو ما عطل مسيرة التنمية وبناء الديمقراطية.
إن ما جرى أثناء الثورة وبعدها لم يكن مؤامرة من أى نوع، إنما كان مشاهد متتالية من الخيبة لكل من عاش مرؤوساً لمبارك عقدين من الزمان، ونحمد الله أن رموز دولة مبارك قد غابوا عن المشهد، وقد اتفقوا جميعاً، حتى حين اختلفوا، على أن يكون أداؤهم مخلصاً لمن جرَّف مصر 30 عاما، فعلينا ألا نُحَمِّل شباب الثورة مسؤولية ما حدث، رغم أخطائهم، أو نتصور أن هناك مؤامرة كونية علينا، فى حين أن الخيبة والضعف يجعلان الآخرين يشفقون على حالنا أكثر من تآمرهم علينا.
[email protected]
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"