عمرو الشوبكي
ليس مهماً أن تصل للسلطة، ولكن المهم أن تصل إليها فى التوقيت المناسب حتى تستطيع أن تحقق برنامجك السياسى وتطور من أوضاع بلدك وتحل مشاكل الناس، حتى لا نقول مصائبها، كما فى مصر.
والحقيقة أن ما جرى مع الإخوان هو عكس ما جرى مع مبارك، فالأول جاء مبكراً ربما بـ8 سنوات والثانى فاق متأخراً ربما بنفس المدة، فالإخوان قرروا فى آخر لحظة أن يكون لهم مرشح فى انتخابات الرئاسة وصوتوا لصالح هذه الخطوة بنسبه 52%، بما يعنى أنه كان هناك تيار واسع داخل الجماعة ضد هذا القرار، أما رجال مبارك فقرروا أن يواجهوا رجال حسن البنا بعد أن أصبحوا جميعا فوق السبعين فحاربوا أولاً بعضهم البعض وساهموا ثانياً كل بطريقته فى إسقاط الآخر، لأنه نظام عاش على المواءمات والمعارك الصغيرة ولم يربط أركانه إيمان بأى فكرة أو مشروع إنما شبكة مترهلة من علاقات المصالح.
فالمشير طنطاوى قضى على مشروع النائب/الرئيس عمر سليمان، وعلى مشروع عمرو موسى رئيساً انتقالياً، وساعد على خسارة شفيق (دون أن يتدخل فى الصندوق) فى حين أن إخوان حسن البنا وقفوا على قلب رجل واحد وقدموا مرسى مع خيرت الشاطر، بعد أن علموا بإمكانية شطب الأخير، ودعموا مرشحهم الاحتياطى مثلما كانوا سيفعلون مع مرشحهم الأصلى.
لقد اختار مبارك عمر سليمان نائباً للرئيس ثم أعطاه صلاحياته فى يوم 10 فبراير ورفضه تقريباً كل من شارك فى الثورة، وكنا محقين حتى لو خطّأنا الكثيرون الآن- سنفرد الأسباب فى حديث آخر- رغم أن عمر سليمان كان بديلا للتوريث لدى تيار واسع من المصريين قبل الثورة، بل إن بعض شباب الثورة صمم موقعاً قبل 25 يناير كتب عليه «لا جمال ولا إخوان نعم لعمر سليمان».
نظام مبارك المتبلد تحرك متأخراً جداً والحقيقة أنه لم يكن سيتحرك مثل نظم أخرى كثيرة لولا الثورة، فقد اعتبر أن التوريث ممكن دون أن يدعمه بشكل علنى، إنما فتح له الطريق، وبديله الراحل عمر سليمان ممكن أيضاً دون أن يدعمه، وحافظ على خيوط اللعبة فى يده 30 عاماً لأنه لم يعتبر أن الشعب رقم فى أى معادلة، وأبقى وزراءه وقادته 20 عاما فى مواقعهم، وحين حانت لحظة التغيير وجد نظاماً شائخاً مترهلًا، فهوى فى 18 يوماً.
هناك تيار من المصريين يحمل الثورة مسؤولية المشهد الحالى، والحقيقة أن مبارك هو المسؤول الأول عما نحن فيه بهذا التبلد المرعب فى التعامل مع مشكلات الوطن على مدار 30 عاماً، فهناك مساران يحكمان عملية التغيير فى أى مجتمع من المجتمعات: الأول هو قدرة النظام على أن يصلح نفسه بنفسه عن طريق وعى أجنحة داخل النخبة الحاكمة بضرورة إجراء إصلاحات سياسية، كما جرى فى عشرات التجارب من إسبانيا إلى تركيا إلى بعض بلدان أوروبا الشرقية، وهناك مسار آخر يضطر فيه النظام إلى إجراء إصلاحات سياسية بفضل الضغوط الشعبية والانتفاضات الجماهيرية، أما نموذج الثورة، الهدف الذى حلم به بعض الشباب وفيه تهدم مؤسسات الدولة من أجل بناء أخرى ثورية ونقية، فهو نموذج يمكن أن تحلم به طول العمر لأنه لم يحدث فى أى تجربة ناجحة طوال ما يقرب من نصف قرن.
والحقيقة أن كارثة نظام مبارك تكمن فى أنه أضاع على مصر فرصة إجراء أى إصلاحات سياسية من داخله وظل جاثماً على صدور الناس 30 عاما، ويردد من محبسه أن غيابه يعنى الفوضى، ويتناسى أنه بسبب سياساته الفاشلة مسؤول مسؤولية أولى عن كل مظاهر الفوضى والانهيار التى نعيشها الآن. إن مصير مصر كان سيختلف لو حدثت انتفاضة جماهيرية كبرى مع تأسيس حركة كفاية 2004 وصعود مشروع التوريث، أدت إلى تنحى مبارك، فكنا سنجد رجال دولة فى أوائل الستينيات من العمر مثل محمد البرادعى وعمرو موسى وكمال الجنزورى والمشير الراحل الكبير أبوغزالة، ولكان بديل مبارك الانتقالى رجل دولة وليس رجل الجماعة. فكما تأخر زمن مبارك وبقى هو ورجاله فى الحكم أكثر مما يجب تسرعت الجماعة وجاء رجالها مبكرين إلى الحكم، وهذه إحدى معضلاتها الكبرى التى عجزت عن أن تراها لأنها دخلت مبكرا فى دائرة الصراع السياسى، فحشدت شبابها فى مواجهة خصومها بدلاً من مواجهه عيوبها. فحين تمتلك الجماعة تراثاً عمره حوالى 85 عاماً خارج دائرة الحكم وخارج دائرة العمل الحزبى، فهل يعقل بعد أقل من عام من وصولها للسلطة أن تركز كل جهودها فى مواجهة كل مؤسسات الدولة من الجيش إلى الشرطة ومن الإعلام إلى القضاء وليس فقط خصومها السياسيين.
إن وصول الإخوان المبكر إلى السلطة حال دون امتلاكهم أى خبرة فى العمل السياسى «فى النور» وهم معارضون شرعيون وليسوا حكاماً، مثلما حدث فى تركيا، وامتلاك تفكير واقعى فى بناء منظومة جديدة لبلد كامل وليس العمل لتحقيق أهداف الجماعة، وإجراء إصلاح جراحى لكل مؤسسات الدولة وليس تصفية الحسابات معها.
إن هذه الجماعة التى تحارب الجميع (أو هكذا يراها قطاع واسع من المصريين) ظلت خارج دائرة الحكم والإدارة حتى فى الفترات التى كانت تتمتع بشرعية قانونية، وظلت دوائر الحكم والمؤسسات الأمنية والعسكرية ترتاب فيها منذ أكثر من نصف قرن باعتبارهم خطراً على الدولة والنظام، والأمر نفسه انسحب على فريق من القوى السياسية والمجتمع وقطاع واسع من المسيحيين المصريين.
إن خطاب الجماعة الحالى وتركيبتها الداخلية، ونظرتها للدولة والخصوم والعالم الخارجى، تدل على أنها كانت بحاجة إلى وقت طويل حتى تقنن فيها بمحض إرادتها وضعها القانونى، ويكون المرشد الحقيقى هو المرشد الموجود على الورق وليس كما فعلت الآن بطريقة مراوغة واختارت أسماء أخرى تقود «جمعية الإخوان المسلمين» بدلاً من الأسماء الحقيقية، وأن تصل للسلطة وهناك دستور وقواعد موجودة سلفا حتى لو لم توافق عليها كلها، فكان يجب أن تقبلها وألا تسمح لنفسها بأن تضع هى قواعد الدولة الجديدة وهى فى السلطة (دستور وقانون انتخابات وغيرها). إن وضع الإخوان الحالى شبيه بوضع الراحل أربكان فى تركيا فقد وصفته بأنه يمثل الطبعة التركية من جماعة الإخوان المسلمين، وحكم من 1995 حتى 1997 ثم تم إسقاطه بتدخل ناعم من الجيش لأنه لم يستطع أن يقدم برنامجا منسجما مع طبيعة الدولة والمجتمع التركى، وجاء أردوجان، الذى حقق أهم إصلاحات شهدتها تركيا، بما فيها القضاء على الدور المباشر للجيش فى العملية السياسية، ولكن بطريقة مختلفة وفى التوقيت المناسب. إن مصر أهدرت فرصة هدم نظام مبارك بإصلاحه من داخله، لأن داخله هذا كان هشا وفارغا، ولم يكن يحمل إلا عجائز محدودى الكفاءة معدومى الخيال، والمشكلة أنه بعد إسقاطه لم يقدم من أسقطوه مشروعاً أو زعيماً بديلًا، فتقدم «الإخوان الجاهزون» قبل موعدهم بسنوات وقبل أن يطبعوا أنفسهم على العمل فى النور مع دولة ومجتمع لا جماعة، وتعجلوا قطف الثمار وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من إعلان فشلهم. الذى لن يقضى على الإخوان كما يتصور بعض خصومهم، إنما سيعيد بناءهم من جديد كما سبق أن سميناه قبل الثورة التأسيس الثانى للجماعة. كل من سيحاول أن يحل مشكله فارق التوقيت سينقذ مصر، فنظام مبارك ورجاله انتهوا، أما قوى المعارضة المدنية ففى يدها أن تصنع بديلا لحكم الإخوان، وألا تضع وقتها فى معارك وهمية حتى لا يكون بديل الإخوان هو التيار السلفى.
نقلاً عن جريدة " المصري اليوم "