عمرو الشوبكي
تتقدم النظم السياسية حين تضع قواعد قانونية ودستورية كمسطرة ثابتة لا تتغير حسب الظروف والأهواء، وتجبر الجميع على احترامها، هذا ما فعلته النظم الديمقراطية التى تقدمت حين أسست لدولة قانون لا تطبق على مقاس حزب أو جماعة أو مجموعة مصالح إنما ترسى قاعدة عامة يلتزم بها الجميع.
وفى مصر فعل حكم الإخوان فى 6 أشهر عكس هذه المعانى، سواء بالإعلان الدستورى المعيب، الذى أعطى صلاحيات استثنائية للرئيس لكى يصفى حساباته مع القضاء، لصالح مشروع جماعته السياسى، أو بالمزايدة اليومية بموضوع الفلول واتهام كل المعارضين بأنهم إما فلول أو متحالفون مع الفلول، مثلما استخدم النظام السابق تعبير الجماعة المحظورة والقلة المندسة لمواجهة خصومه السياسيين، وكأن مصر على موعد مع الكلمات الملتبسة التى تجعل دائما ديمقراطيتها معطلة أو منقوصة.
والحقيقة من الوارد أن يضع النظام الجديد منظومة قانونية متكاملة عرفت فى تجارب كثيرة بتجربة العدالة الانتقالية، وبمقتضاها يتم محاسبة رموز النظام القديم على أى جرائم ارتكبت بالقانون، وقلة من التجارب هى التى عزلت بعض رموز النظام القديم لفترة من الزمن مثلما حدث فى عدد محدود من بلدان أوروبا الشرقية حين عزلوا مثلا فى تشيكوسلوفاكيا رجال السياسة المتعاونين مع الأمن وليس كل أعضاء الحزب الشيوعى، وقدروا بالعشرات، فى حين كان عدد أعضاء الأحزاب الشيوعية السابقة يضم مئات الآلاف من الأعضاء.
والحقيقة أن كل تجارب التحول الديمقراطى أقصت مرتكبى الجرائم من رجال النظام القديم، أما أعضاء الأحزاب القديمة العاديون فدخلوا فى النظام الجديد دون أى مشاكل - هل يعرف الناس أن مستشارة ألمانيا الحالية ميركل - كانت من «فلول» الحزب الشيوعى فى ألمانيا الشرقية، الذى اختفى ومعه البلد بأكمله ونفس الأمر ينسحب على باقى تجارب أوروبا الشرقية.
إن المزايدة بموضوع الفلول على مئات الآلاف من المصريين ممن دخلوا الحزب الوطنى لسبب أو لآخر والعمل بكل قوة على إقصائهم حسب الطلب والحسابات يعد كارثة حقيقية لأنهم لم يعاقبوا على جرائم محددة، وكثير منهم لم يتورط فى أى قضايا فساد، وبعضهم الآخر دخل انتهازية أو فهلوة، بحثا عن منصب أو موقع عن طريق تملق حزب الحكومة، وهى كلها ظواهر - فيما عدا الجرائم - تحارب بالسياسة وببناء منظومة سياسية لا تسمح طبيعتها الجديدة والديمقراطية لصعود هؤلاء.
والحقيقة أن الإخوان وحلفاءهم لم يهتموا مطلقاً ببناء أى منظومة جديدة إنما عاقبوا من سموهم الفلول ليس على «فلوليتهم»، إنما على خروج كثير منهم من خمولهم واستكانتهم داخل الحزب الحاكم ونزولهم الشارع ليعارضوا حزباً حاكماً جديداً لم يطرقوا أبوابه كما فعل آخرون من رفاقهم.
والمفارقة أن إخوان الحكم هم الذين تحالفوا مع قيادات الاتحاد العام لعمال مصر ومعظمهم أعضاء فى الحزب الوطنى دون أى مشكلة، لأن الهدف كان تهميش دور النقابات المستقلة، ثم السير بعد ذلك بنفس طريقة الحزب الوطنى فى الإدارة، أى تغيير القيادات دون تغيير المنظومة، فصدر قانون ينص على استبدال القيادات النقابية، التى وصلت إلى سن المعاش بالمرشح الذى يليها فى عدد الأصوات، والسماح لوزير القوى العاملة باستكمال تشكيل مجالس إدارات المنظمات النقابية التابعة للاتحاد العام فى حالة حدوث فراغ لأى سبب. بديهيا، هذه تعد السلطة الممنوحة لوزير القوى العاملة المنتمى لجماعة الإخوان.
ولهذا التعديل، كما ذكرت نادين عبدالله، الباحثة المتخصصة فى شؤون الحركات الاجتماعية والنقابية، دلالة كبرى: لا يبدو أن أولوية الوزير هى إصلاح مؤسسة نقابية فسدت سابقا بقدر ما يتعلق الأمر بكيفية الاستئثار بها. نعم، يتضح الآن أن التعاون الإخوانى مع بقايا النظام القديم داخل الاتحاد العام كان السبيل للسيطرة التدريجية عليه حين سنحت الفرصة.
فرجال الأعمال الذين سافروا مع الرئيس فى رحلته إلى الصين، وأغلبهم كان من رجال الحزب الوطنى السابق، يتم التعامل معهم باعتبارهم رجال صناعة شرفاء يخدمون البلد، والآخرون الذين انضموا لحكومة الإخوان الجديدة كانوا أعضاء فى الحزب الوطنى، ولكنهم لم يعتبروا بالطبع فلولاً إنما هم تكنوقراط شرفاء يخدمون البلد من أجل الصالح العام.
إن عملية الإصلاح والتطهير فى التجارب التى أسست لنظم ديمقراطية وليس استبدادية تحت ستار الدين أو الثورة أو الاشتراكية، هى التى حاسبت مرتكبى الجرائم من رجال النظم القديم، ولم تصف الحسابات أو تنتقم من «الأشخاص»، بنص دستورى كما جرى فى مصر، وعملت على وضع منظومة جديدة تماما تحول دون إعادة إنتاج «فلول» جدد مع النظام الجديد.
إن معضلة أى تجربة جديدة ترغب فى بناء نظام جديد هى فى قدرتها على تفكيك المنظومة القديمة التى عاش فى ظلها رجال النظام القديم وليس استسهال الأمر بإقصاء أشخاص لحسابات سياسية وحزبية والإبقاء على المنظومة القديمة دون تغيير.
ما الفرق فى الإعلام الحكومى حين تغير الوزير من عضو فى الحزب الوطنى إلى عضو فى جماعة الإخوان، أو حين تغير رؤساء تحرير الصحف من مقربين من الحزب الوطنى إلى مقربين من الإخوان المسلمين، هل تغيرت المنظومة القديمة فى شىء؟ لا شىء.
إن معيار التقدم والديمقراطية ليس فى تلك الحملة الهيستيرية على الفلول، إنما فى امتلاك القدرة على تفكيك منظومة الفلول، لا الاحتفاظ بها وجلب أشخاص جدد، موالين للنظام الجديد كما جرى مع تجربة النائب العام، فنتيجة قرار الرئيس الخاطئ استقال النائب العام الجديد بعد أن رفضه أعضاء النيابة، وفى كلتا الحالتين لم يكن لبقاء النائب العام القديم أو تغييره خارج القانون أى إصلاح فى السلطة القضائية، فالهدف هو جلب الموالين لا الإصلاح.
إذا جاء أنقى ثورى وأعظم إصلاحى وأفضل إسلامى على قمة المنظومة القديمة دون أن يمتلك رؤية واقعية لإصلاحها وإعادة بنائها فإنه سيديرها بنفس طريقة النظام القديم دون أى تغيير يذكر.
مصر بحاجة لرؤية لتفكيك المنظومة القديمة، لا تصفية حسابات مع أشخاص لم يرتكبوا أى جرائم، تحت حجة أنهم فلول، فمنظومة الفلول التى يتمسك بها الإخوان هى الأخطر على مصر وهى القادرة على إعادة إنتاج النظام القديم فى صورة جديدة قد تكون أسوأ من النظام القديم.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"