بقلم : عمرو الشوبكي
مدهش الغياب السياسى المصرى فى السودان، ومدهش عدم حضور «مصر السياسية» فى أى تفاوض وحوار بين الأطراف المتصارعة فى السودان، وحتى السياسيين الكبار- الذين امتلكوا خبرة وتاريخًا كبيرًا فى التفاوض والمهارات الدبلوماسية مثل عمرو موسى وآخرين- لم يظهروا فى السودان ولا فى ليبيا ولا فى أى مكان آخر. صحيح أن أدوات مصر الاستخباراتية ظلت حاضرة ومؤثرة فى أماكن كثيرة، إلا أنها بلا شك تحتاج إلى عودة الأدوات السياسية، التى ظلت حاضرة طوال عهودنا غير الديمقراطية، ملكية أو جمهورية، بجانب أدواتها الأمنية والعسكرية.
والحقيقة أن كل نظمنا السابقة عرفت مشروعات سياسية كبرى، مثّلت مخزونًا كبيرًا لدور مصر السياسى الخارجى، ففى الستينيات امتلك النظام فى ذلك الوقت مشروعًا سياسيًّا نجح فى جذب غالبية الناس حوله، فاقتصرت مهمة الأمن على حصار التنظيمات «المناوئة» ومواجهتها، كما جرى مع الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الليبراليين، وليس مع مواطنين على باب الله. لقد نجح مشروع الوفد الليبرالى ومشروع عبدالناصر القومى فى جذب ولاء القطاع الأغلب من المصريين بإرادتهم الحرة وليس بالقهر الأمنى، فنظام عبدالناصر «غير الديمقراطى» نال أكبر شعبية فى تاريخ مصر المعاصر، تنظيمات الحزب الواحد كانت بنت عصرها، من هيئة التحرير مرورًا بالاتحاد القومى، وانتهاء بالاتحاد الاشتراكى، وحين شعر عبدالناصر أن تنظيماته السياسية التى بناها وهو فى السلطة ضمّت المؤيدين الحقيقيين والمنافقين لأى سلطة، أسّس تنظيمًا سريًّا سماه «التنظيم الطليعى» (طليعة الاشتراكيين)، وأسّس منظمة الشباب، ولم يستسهل الحل الأمنى فى كسب الولاء وتشويه الخصوم، إنما حرص على الاحتفاظ بقناة سياسية، مهما كان الرأى فيها، وضعته فى تواصل دائم مع الجماهير. لقد أفرزت هذه الطبيعة السياسية للنظام كوادر سياسية ظلت تدير البلاد فى عهود عبدالناصر والسادات ومبارك، ولعبت أدوارًا كبرى لدعم الحضور المصرى الخارجى، الذى لم يَغِبْ عنه مطلقًا حضور أجهزة الأمن والمخابرات كإحدى أدوات مصر الخارجية، جنبًا إلى جنب مع الأداة السياسية.
صحيح أن مصر انشغلت دائمًا بالأمن، ولكنها انشغلت أكثر بالسياسة، وحان الوقت أن تستعيد أدواتها السياسية ودور نخبتها وتعيد الروح إلى مؤسساتها السياسية والصحفية. ورغم الانتقادات الكثيرة لإعلام الصوت الواحد فى الستينيات، فإن إدارة هذا الإعلام تمت من خلال صحفيين كبار ومحترفين (مؤيدين طبعًا للنظام) مثل محمد حسنين هيكل وغيره، وتفاعلت مع الأحداث العربية، وأفردت عشرات التقارير الصحفية، وأرسلت عشرات المراسلين، ونجحت فى أن تكون إحدى أدوات القوة المصرية الناعمة.
علينا ألّا نخشى انتفاضات الشعوب ونتصور أنها تهديد للنظام المصرى، وأن نعلم أن استعادة أدواتنا السياسية فى السودان وغيرها تفيدنا وتفيد أشقاءنا، دون أن نفرض نموذجًا ولا نخشى نموذجًا آخر.