أكتب هذا المقال من داخل عربة القطار السريع (ليس قطار الشرق السريع لأجاثا كريستى) الذى انطلق من مدينة فرانكفورت الألمانية متجها إلى باريس.
وقد شاركت فى مؤتمر عُقد فى فرانكفورت حول المسارات السياسية فى بلاد أمريكا الجنوبية، وأتجه إلى باريس للمشاركة فى مؤتمر آخر حول المعطيات الجديدة للحوار الأورومتوسطى، الذى سيركز على الإرهاب واللاجئين.
وقد استمعت فى مؤتمر فرانكفورت أكثر مما تحدثت، لأن ليس لدىَّ خبرة تُذكر بأمريكا الجنوبية إلا العناوين الكبرى من نوع انقلاب بينوشيه فى شيلى بداية السبعينيات ضد الرئيس الاشتراكى المنتخب سليفادور الليندى، وعن بيرون والبيرونية فى الأرجنتين التى ظلت حتى الآن تُقارن بعبدالناصر والناصرية.
وقد جاءت الفرصة لأستمع إلى فريدريكو وهو باحث أرجنتينى متمكن درس فى الجامعة الأوروبية فى فلورنسا بإيطاليا، وحين تراه يذكرك بلاعبى الكرة «شبه مارادونا فى شبابه» وتقول عليه من شعره «المنكوش» ولحيته الطويلة إنه من روابط المشجعين لا أستاذ علوم سياسية، وسعدت حين قال لى إنه يعرف جيدا أحد دبلوماسيينا المميزين فى الأرجنتين، وهو محمد أحمد يوسف، وأشاد به وبكفاءته.
وقد تحدث الرجل عن تجربة أمريكا اللاتينية فى التحول الديمقراطى والنظم العسكرية، واستهوانى حديثه عن زعيم الأرجنتين الكبير خوان بيرون، الذى حكم البلاد بانتخابات ديمقراطية من عام 1946 حتى 1955، وعاد وحكمها مرة أخرى من 1973 حتى وفاته عام 1974، وتمتع الزعيم الراحل بشعبية واسعة وأسس لنظام اشتراكى لم يختلف فى جوهره عن نظام عبدالناصر.
وظلت البيرونية تحكم الأرجنتين منذ عصر زعيمها حتى الآن إلا فى المرة التى قاطع فيها «البيرونيون» الانتخابات، لأن قانونها لم يعجبهم واعتبروا أن أى انتخابات تجرى فى البلاد بدونهم هى غير شرعية، ولذا فقد عاقبهم الناخبون فى الانتخابات التالية وخسروها ثم عادوا بعدها وربحوا كل الانتخابات.
قال «فريدريكو» إن بيرون لم يكن ديكتاتورا كما يروج خصومه، صحيح أنه لم يكن ديمقراطيا وسمح بهامش تعددية حزبية مقيدة، وهذا فارق عن نظام عبدالناصر الذى اعتمد نظام الحزب الواحد.
كما تركز الحديث على جانب آخر مهم يتعلق بالخبرة الاستعمارية، فالأرجنتين نالت استقلالها من الاستعمار الإسبانى فى 1810، وباقى دول أمريكا اللاتينية نالت استقلالها فى 1830، وبالتالى فهى أسست نظما وطنية غير خاضعة بشكل مباشر للاستعمار، وهذا ما جعل قدرتها على بناء مؤسسات وطنية بعيدا عن تأثير الاستعمار واضحا.
وهنا دار نقاش حول أوضاع المؤسسات فى العالم العربى، وميزت من جانبى بين بلاد مثل مصر وتونس والمغرب، والتى حافظت مؤسساتها على تقاليد قديمة وعرفت انتخابات وحياة سياسية وحزبية رغم الاستعمار مقارنة بتجارب عربية أخرى.
وانتقل الحديث إلى المجتمعات، وعما يتردد من استعلاء المجتمع الأرجنتينى على باقى المجتمعات اللاتينية، فقال الباحث الأرجنتينى إن هذا الأمر يتعلق بسكان العاصمة بيونس إيريس لأن أصولهم أوروبية ولذا يتعاملون بقدر من الاستعلاء ليس فقط تجاه شعوب أمريكا الجنوبية، إنما تجاه باقى مناطق الأرجنتين.
عالم أمريكا الجنوبية بعيد عنا فى المسافة، ولكنه قريب منا أولا كرويا، وثانيا سياسيا، ولو من زاوية تبادل المعرفة بين بلاد عاشت بعض الخبرات المتشابهة.
فى السماء لابس تونية بيضاء!