كثر الحديثُ، مع بدايات العام الجديد، عن الأخطار التى يواجهها المجتمع المصرى، بعضها خوفا مما يُروّج عن النزول إلى الشارع فى 25 يناير القادم، بعد أن اعتبر البعض التظاهر فى الشوارع هدفا فى حد ذاته. ويتحدث البعض الآخر عن أن تداعيات انتخابات 2015 مثل انتخابات 2010، وأن نتائجهما ستكون واحدة على المجتمع المصرى.
وإذا كنت أشرت، فى مقال أمس الأول، (ليست 2010) إلى أن تحديات الفترة القادمة ومخاطرها ستختلف عما جرى فى 2011، فإن المؤكد أن هناك مجموعة من الأخطار ليس من بينها اندلاع ثورة شعبية، حتى لو أصر البعض على تحويلها من وسيلة لإصلاح النظام السياسى إلى غاية قائمة على الاحتجاج، ثم الاحتجاج دون هدف، إلا التفكيك والهدم والعجز عن البناء.
يقينًا هذه المدرسة موجودة فى الحياة السياسية المصرية، بل حتى فى كثير من النظم السياسية الديمقراطية، وقدرة أى نظام على تهميشها تكون بالسياسة وليس بالإجراءات الأمنية، وذلك بدمج أعداد كبيرة من الشباب فى العملية السياسية، وقبول نمط سلمى من المعارضة المدنية الشرعية القادرة على مواجهة الجماعات الاحتجاجية ومدارس المراهقة الثورية، من خلال مشاريع فكرية وأحزاب مؤثرة وعمل أهلى حقيقى على الأرض.
ورغم أن مصر تعانى من أزمة عميقة فى مسارها السياسى، وأن التيارات الثورية ستظل موجودة، فإن الخطر الثورى على البلاد تراجع بصورة كبيرة، والخوف من ثورة يناير أخرى فى 2016 أمرٌ بعيدٌ عن الواقع.
ومع ذلك، تبقى هناك أخطار كبرى تتعلق بتزايد حجم الاحتجاجات والاحتقانات الموجودة داخل المجتمع، فمن يتظاهرون ليسوا فقط النشطاء الذين كانوا يوقفون ليومين فى عهد مبارك، والآن يحكم عليهم بالسجن 10 سنوات، فمن قال إن مظاهرات أمناء الشرطة لم تمثل خطرا، خاصة أن الدولة لن تستطيع التعامل معها بنفس القسوة التى تتعامل بها مع المعارضين؟ تماما مثل موظفى الضرائب العقارية ورافضى قانون الخدمة المدنية، بجانب كل صور الاحتجاجات الفئوية التى ليست كلها على صواب، فبعضها يطالب برفع أجره فى شركات خاسرة، ولكنها أصبحت جزءا من المشهد اليومى فى مصر، وهى جزء من أنماط كثيرة من الاحتجاجات الفئوية غير المنضبطة والبعيدة عن مجال السياسة والسياسيين.
أما الخطر الثانى فيتعلق بتحركات شعبية تلقائية يكون كثير منها ردّ فعل على تجاوزات الشرطة وبعض الجرائم التى اتهم فيها رجال شرطة، ودفع ثمنها مواطنون عاديون لا علاقة لهم بالإرهاب ولا المعارضة الإخوانية أو غير الإخوانية، وشهدنا وفاة صيدلى فى الإسماعيلية، ومواطن آخر فى الأقصر، وغير ذلك من الحوادث التى تكررت فى مدن وقرى مصرية كثيرة، وكان رد الفعل الشعبى غاضبا ومؤثرا، وهى أمور من شأنها أن تؤثر على استقرار أى مجتمع.
أما الخطر الثالث فهو يتعلق بالصراعات غير المرئية أو المخفية التى توجد فى مجتمعات كثيرة تغيب عنها الشفافية والصراعات السياسية المفتوحة، من خلال أحزاب وقوى سياسية علنية تتنافس على السلطة وفق قواعد قانونية وديمقراطية.
فالتغيرات المفاجئة التى طالت قيادة جهاز الأمن الوطنى لا أحد يعرف بالضبط أسبابها، وهل لها علاقة بالمشهد السياسى والبرلمانى؟ وهل مشهد الخلافات السياسية بين أفراد وقوائم لم تكن جميعها بعيدة عن أجهزة الدولة له دلالة مستقبلية؟
فبدلا من أن تكون هناك صراعات بين التيارات السياسية على برامج وتوجهات، اختارت أجهزة الدولة الخيار الأسهل والأضمن، وليس الأصح، وهو أن تلعب دورا رئيسيا فى تشكيل البرلمان، بما يعنى أن هناك خطرا حقيقيا لانعكاس أى صراع وارد بين مندوبى هذه الأجهزة إلى صراع بين هذه الأجهزة نفسها.
ففى كل مجتمع هناك صراعات سياسية، وهناك مصالح اقتصادية متعارضة، وقوى اجتماعية تتحالف فى مواجهة قوى أخرى، ولم يعد هناك مكان لنظريات الاصطفاف الوطنى إلا فى عهود مواجهة الاستعمار أو محاربة أخطار كبرى كالإرهاب.
ورغم وجود هذه الأخطار إلا أنها لم تلغ التباينات الموجودة داخل المجتمع ولا مسؤولية النظام السياسى عن وضع قواعد لتنظيمها ووضعها داخل الإطار السلمى والديمقراطى من خلال دولة القانون.
هذا النوع من «المخاطر المخفية» يقتل السياسة فى المجتمع، لأنه يقصرها على الترتيبات التى تجرى فى «الغرف المغلقة»، فى حين أن هذه الترتيبات موجودة فى كل المجتمعات، ولكن فى قضايا تخص الأمن القومى، وخطط محاربة الإرهاب أو الدول والجماعات المعادية، وليس ترتيب قوائم أو تشكيل أحزاب أو إنجاح مرشحين فى مجلس النواب.
الخطر الكبير الذى تواجهه مصر هو فى هذا التضارب الداخلى وصراعات مراكز القوى الجديدة (تعبير صديقنا عبدالله السناوى فى مقاله الأخير) التى تجرى فى مرحلة لا يوجد فيها تنظيم سياسى أو وسيط حزبى حاكم ولا معارض، وبالتالى الدولة تدير وتحكم بشكل مباشر عبر أجهزتها، وهو وضع شديد الخطورة.
اللحظة الفارقة التى تستطيع من خلالها مصر أن تتجاوز مخاطرها القادمة ستبدأ بتقنين التنافس السلمى على السلطة، بين قوى وجماعات سياسية مؤمنة بالدولة الوطنية والنظام الجمهورى وبالدستور المدنى، بصورة تحول مؤامرات الغرف المغلقة إلى صراعات سياسية مفتوحة يحكمها القانون والدستور.