أنور عقل ضو
مفارقة غريبة ألا تتحدث وسائل الاعلام الأميركية ومراكز الأبحاث العلمية عن أسباب محتملة للاعصار "ساندي" لا يمكن إسقاطها كفرضية على صلة بالتغيرات المناخية التي يشهدها العالم، فيما جل نتائج الابحاث العلمية تؤكد أن كوكب الأرض بات أسير ظاهرة الاحتباس الحراري، ما يدحض فرضيات بعض المشككين بحقيقة هذه الظاهرة، لتستقر جميع الدراسات عند ثابت مؤكد بأن الاحتباس الحراري هو المسؤول المباشر عن التقلبات المناخية المتطرفة، وثمة أمثلة كثيرة لا يتسع المجال للوقوف عندها، وتفترض بحثا خاصا كي لا نبتعد عن سياق الحدث النيويوركي بشكل خاص والأميركي بشكل عام، الناجم عن اعصار "ساندي" الكارثي.
ما يدعو للاستغراب بداهةً، أن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أكدت في دراسة نشرت سنة 2010 أن "التغير المناخي الذي تشهده الولايات المتحدة من موجات حر شديدة وعواصف ثلجية غير معتادة تمثل أكبر رد على المشككين بمسألة الاحتباس الحراري"، بينما اكتفت هيئة الأرصاد الجوية الوطنية الأميركية أول أمس بالقول "إن الإعصار (ساندي) هو أكبر اعصار تشهده الولايات المتحدة من حيث المساحة التي امتدت اليها الرياح وتسبب في ارتفاع منسوب البحار نحو 4.2 متر في وسط مانهاتن مقارنة مع الرقم القياسي السابق الذي بلغ ثلاثة أمتار خلال الإعصار (دونا) عام 1960". صحيح أن هيئة الارصاد غير معنية بما هو أبعد من رصد الاعاصير والكوارث الطبيعية الناجمة عن تقلبات المناخ والتحذير منها، لكن لم نسمع صوتا من قبل مراكز الابحاث يقدم تفسيرا علميا لهذا الاعصار المدمر غير البعيد عن ظواهر لا يمكن فصلها عما شهدته الولايات المتحدة قبل أشهر عدة على مستوى موجة الجفاف التي ضربت العديد من الولايات الاميركية، وقد وصفها الرئيس باراك أوباما بأنها "أشد موجة جفاف تضرب الولايات المتحدة منذ نصف قرن وتتسبب في تقلص انتاج المحاصيل والماشية في البلاد"، وقد دعا الكونغرس يومها لإقرار مشروع قانون زراعي يسمح بإرسال مساعدات لمزيد من المزارعين ومربي الماشية لمواجهة الكارثة، وهي تعدت بنتائجها الولايات المتحدة وسط الحديث عن أزمة غذاء عالمية.
ما يثير الاهتمام أن الولايات المتحدة لم توافق في مؤتمر "دوربان" للمناخ العام الماضي (2011) على محادثات كان من شأنها أن تؤدي إلى اتفاقية جديدة اوسع نطاقا، وملزمة قانونا، من اجل تقليص الانبعاثات الكربونية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، ولم يكن موقفها مفاجئا وهي التي تنصلت من كل الاتفاقيات الدولية بشأن المناخ منذ مؤتمر الريو الاول عام 1992 الذي عرف بـ "قمة الارض".
وقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة تنظر إلى التغيرات المناخية بعين مصالحها الآنية متجاهلة ما ورد في تقارير صدرت تباعا عن الامم المتحدة، ومن بينها تقرير حمل تحذيرا من أن ارتفاع مستوى البحر يمكن أن يغمر حي مانهاتن في نيويورك بالماء حتى شارع وول ستريت. ما يؤكد أن الولايات المتحدة وهي أكبر مسبب لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن الإنسان وتليها الصين ودول الاقتصادات الناشئة ومنها الهند، وهي في الآن عينه الاكثر تضررا من نتائج انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
ولم يعد خافيا حجم الضغوط التي يتعرض لها الساسة الاميركيون وهم أسرى "الكارتيلات" المالية الضخمة ومن يمثلها من أصحاب شركات النفط وأقطاب صناعة السيارات ومحطات توليد الطاقة... إلخ، وهؤلاء ليسوا على استعداد لتبني خطوات تحد من الانبعاثات الكربونية والتخلي نسبيا عن نمط الانتاج الجشع مستفيدين من هامش الحرية الذي يتيحه لهم الاقتصاد الحر.
والمشكلة أن الولايات المتحدة تدفع الفاتورة الاكبر من خلال النتائج المباشرة للتغير المناخي، وبالنسبة إلى إعصار "ساندي" ذكرت إحدى شركات تقييم حجم الكوارث ان هذا الاعصار تسبب في خسائر مؤمن عليها بلغت 15 مليار دولار، وإذا ما أخذنا حجم الخسائر الناجمة عن موجة الجفاف التي ضربت المواسم الزراعية في بعض الولايات المحورية في وسط الغرب الأميركي نصل إلى أرقام خيالية.
بالتأكيد لا يمكن إغفال الدول الصناعية الناشئة ودورها في زيادة نسب التلوث وبث الغازات الدفيئة في الجو على نحو كارثي أيضا، كما أن فشل مؤتمر "ريو+20" الاخير (2012) الذي انعقد تحت عنوان رئيسي "الاقتصاد الأخضر" سببه عدم التطرق الى معالجة بنية الاقتصاد العالمي المسيطر والمسؤول عن الأزمات العالمية المتلاحقة.
من هنا، ستكون الولايات المتحدة مرغمة تحت وطأة الكوارث الطبيعية على تعديل برامجها الاقتصادية، لكن لا يبدو أن ثمة ما هو إيجابي في المدى المنظور، ما يعني المزيد من كوارث المناخ إلى أن تتشكل قوى وأحزاب "خضراء" تكون قادرة على تكريس حضورها وتكون لاعبا مهما على مسرح السياسة الاميركية (ألمانيا نموذجا)، لتتمكن من عقلنة الاقتصاد وتغليب المعايير الاخلاقية في حركة الانتاج وتقديم مستقبل الكوكب على مصالح الشركات والافراد.