بقلم-أحمد جلال
يخرج المجتمع الدولى علينا من وقت لآخر بشعار تنموى جديد، أحدثها شعار «التنمية المستدامة». قبل ذلك ظهرت شعارات أخرى، مثل مقياس التنمية البشرية، والنمو الاحتوائى، وأهداف التنمية الألفية. القاسم المشترك بين كل هذه الشعارات هو عدم الرضى عن معدل النمو الاقتصادى كمؤشر أوحد لقياس تقدم الدول. هذا لا يعنى أن التنمية المستدامة ممكنة دون معدلات نمو اقتصادى مرتفعة، لكن طموحات الشعوب تتعدى ذلك لتشمل الشعور بعدالة توزيع عوائد النمو، دون الإضرار بالبيئة.
مناسبة الحديث عن «التنمية المستدامة» أننى شرفت مؤخرا بالمشاركة فى ندوة تحت هذا العنوان، بناء على دعوة كريمة من الدكتور سعيد المصرى، رئيس المجلس الأعلى للثقافة، ومنظمة التعاون الإسلامى. الندوة انعقدت فى مقر المجلس بدار الأوبرا يوم 6 فبراير الجارى، وكانت مداخلتى فى الموضوع، بحكم التخصص، من منظور اقتصادى، وقدم الدكتور أحمد زايد، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة القاهرة، مداخلته من منظور اجتماعى وثقافى.
من جانبى، حاولت الإجابة على ثلاثة أسئلة، أولا: ما هى أوجه قصور معدل النمو الاقتصادى كمؤشر للتقدم؟ ثانيا: إلى أى حد نجحت منطقتنا العربية، ومصر تحديدا، فى سعيها نحو تحقيق التنمية المستدامة؟ وأخيرا، ماذا يعنى كل هذا فيما هو آت؟
فيما يتعلق بأوجه قصور النمو الاقتصادى، أولا، من الممكن أن تكون معدلات النمو مرتفعة لكنها لا تتسم بالاستدامة إذا كانت تعتمد على التراكم الرأسمالى والبشرى، دون تحسن يذكر فى الإنتاجية التى تتولد عن تبنى أساليب ابتكارية فى توظيف عناصر الإنتاج. ثانيا: من الممكن أن تكون معدلات النمو مرتفعة لكنها تترجم إلى تحسن حقيقى فى الأحوال المعيشية لمعظم المواطنين، كما أنها قد تحابى الأجيال الحالية على حساب لأجيال القادمة إذا كانت ناتجة، على سبيل المثال، عن استنزاف موارد طبيعية فى طريقها للنضوب، مثل البترول والغاز الطبيعى، فى الاستهلاك وليس الاستثمار فى أصول ذات عوائد مستقبلية.
ثالثا: من الممكن أن تكون معدلات النمو عالية لكن على حساب الاستدامة البيئية، وهذا ما حدث فى القرن العشرين. ما نشهده اليوم من تغير مناخى نتيجة الاحتباس الحرارى، وذوبان الثلوج، وارتفاع مستويات المياه بشكل يهدد سلامة بعض الدول، ومنها دلتا مصر، كان نتيجة الاندفاع نحو تحقيق معدلات نمو باهرة دون الحفاظ على البيئة، خاصة فى الدول المتقدمة.
فى منطقتنا العربية، وفى مصر تحديدا، هناك الكثير من الشواهد الدالة على أننا لا نسير بخطى ثابتة نحو تحقيق التنمية المستدامة. تفيد الدراسات المتتالية بأن معدلات النمو لدينا تعتمد بدرجة كبيرة على تراكم عناصر الإنتاج (رأس المال والعمل) وليس على تحسن الإنتاجية، وتذبذب فى معدلات النمو نتيجة تقلبات أسعار البترول والغاز الطبيعى عالميا. بالنسبة لمسألة العدالة الاجتماعية، تفيد الدراسات الحديثة أن منطقتنا تتسم بتفاوت شديد فى توزيع الثروة، ويزيد الأمور سوءا أن هذا التفاوت ليس ناتجا فى معظم الأحيان عن فروق فى الجد والاجتهاد. وأخيرا، قد لا تكون منطقتنا مسؤولة عن التدهور البيئى عالميا، بحكم أننا لا ننتمى للعالم المتقدم بعد، لكننا لا نعير البيئة ما تستحق من الاهتمام محليا، بدليل تلوث الماء والهواء، وتراكم القمامة، وضعف رعاية المحميات فى كثير من البقاع.
ماذا عن المستقبل؟ التنمية المستدامة ليست بعيدة المنال، لكن بشروط، أهمها توافر الإرادة السياسية، والانفتاح على الاستفادة من التراكم المعرفى، وتضافر جهود أصحاب المصالح المختلفة. تحسين الإنتاجية يتطلب نقلة نوعية فى السياسات الاقتصادية والأطر المؤسسية لحث الأفراد والشركات على الابتكار والكفاءة. السعى لتحقيق العدالة الاجتماعية يستوجب، على الأقل، طفرة فيما يقدم من خدمات تعليمية وصحية وبنية أساسية لجموع المواطنين، وعدم الاكتفاء ببرامج الحماية الاجتماعية. حماية البيئة تتطلب جهودا حثيثة على المستويين المحلى والعالمى. ما يدعو للقلق أن التنمية المستدامة بهذا المعنى تحظى بالكثير من الحديث عنها وقليلا من الفعل، وليس أدل على ذلك من استمرار الاحتفاء بالنمو الاقتصادى محليا، وانسحاب أمريكا من اتفاق باريس لحماية البيئية بعد تولى ترامب الرئاسة على المستوى العالمى.
للتأكيد، ما جاء فى هذا المقال ليس دعوة للإقلاع عن السعى لرفع معدلات النمو الاقتصادى. على العكس، إنها دعوة للتأكد من استمراريته، وتوزيع عوائده بعدالة دون تثبيط للهمم، والحفاظ على البيئة التى تحتضننا جميعًا.