عمران الكبيسي
ولدت وعشت سنوات طفولتي وصباي في المنطقة الغربية من العراق المجاورة للجزيرة العربية والأردن وسورية، ويتميز أهلها بصفاء الفطرة العربية، فلم تدخلها عناصر مستعربة، وبقيت حياتهم في الوبر والمدر عربية خالصة النقاء، يتمسك أهلها بلبس العباءة بأنواعها والعقال والكوفية بأشكالها، الغترة البيضاء، والشماغ المرقط بالأحمر أو الأسود، يحرصون على ارتدائها زيًا شعبيًا تقليديًا، ومن تعمد بإسقاط عقال شخص من على رأسه، فذلك يعني ما يعني، فقد تكلف جريرتها الحياة أو المال والجلاء. وأذكر كنت صبيًا صحبة أخي الأكبر في أحد مجالس القهوة العربية لدى شيخ القبيلة وفق تقاليد وأصول نتعلمها منذ الصغر، ودخل رجل عليه إمارات الغضب والإحساس بمهانة لا يرتضيها لنفسه، وقف وسط المجلس وجها لوجه مع شيخ القبيلة وقد ثنى ركبتيه وصار يتحدث بصوت متهجد، ثم تناول عقاله وكوفيته من رأسه ورمى بها أمامه على الأرض، فانتفض الحضور وقوفًا لا يا أبو فلان نحن عندك وأنت المعزز المكرم، وانكبوا عليه يعيدون كوفيته على رأسه والشيخ يحاول بنفسه إعادتها وتعديلها ليستعيد هدوءه ويطمئن بأن له ما يريد.
فعرفت أنه تقليد قبلي عربي، حينما يشعر العزيز الحليم بالإهانة، أبسيطة كانت أم جسيمة، يستجير بأهله طالبًا النصرة عن حكمة وتقدير لروح الانتماء، يستفز الكرام ويستثيرهم لينصرونه على نفسه وعلى من أساء إليه، خير له من إن يبقى إن سكت مكلومًا، وإن اقتص لنفسه جار بنظر القبيلة. اليوم لست وحدي من يشعر بالإهانة، بل ملايين العرب يشعرون بها، ويشتكون ظلم أهلهم العرب لأنفسهم وللغتهم، هذه اللغة العريقة، لغة القرآن، لغة الجدود الصيد، اللغة الجميلة الرشيقة، لغة التراث والحضارة: العلم والفكر والثقافة والفن والأدب، وبكل الحزن والأسف والأسى ومعاني اللوعة يتجاهلها أهلها، ويشيحون بألسنتهم عنها إلى ما دونها عزة وجمالا. الآباء اليوم يدفعون بأبنائهم إلى مدارس خاصة لا ليتعلموا لغة القرآن وترتيله ويتشربوا قيمه من الصغر، بل ليتعلموا باللغات الأجنبية ويدفعون ثمنا باهظا كي يتبرجوا بالفرنجة.
صار الأجنبي الغريب العارف برشاقة لغتنا ووداعتها يأسى عليها عوادي الزمن، فيحتفل بها ويكرمها عطفا منه، كأنه أرحم بها من بنيها، يواسيها اعترافا منه لها بالعظمة، وتقديرًا لماضيها، كما يُكرم فنان عظيم كبر وشاخ وتقاعد، ويا للحسرة هكذا تواسى اللغة العربية اليوم وينظر إليها، كما لو كانت امرأة هيفاء جميلة ابنة نسب وحسب، وذات حلم وخلق وكرم، هجرها خليلها إلى من هي دونها بالفضل جهالة منه وعقوقا، وتركها يأسى لها المتأسون.
نحن أبناء العربية ممن اعتادوا لبس الكوفية والعقال واتخذوا منها هوية، وبقيت اللغة العربية وجها لهم وانتماء ووجودًا، لقد أدمى قلوبنا جور أهلنا على لغتنا، وأشجى صدورنا حسرة عليها، وها ننادي وننزع ما على رؤوسنا ونستجير للغتنا العربية لغة القران كتاب الله داعين المسؤولين الغيارى أصحاب الفخامة والسمو والمعالي ملوكا ورؤساء وأمراء ووزراء وممثلي الأمة وقادة الفكر وكل المعنيين في الخليج خاصة والعرب عامة، وبكل ما تمتلك هيبة العربية من شرف التمثيل في التقاليد والأعراف، رافعين أيدينا ضارعين طالبين نصرة لهذه اللغة المهضومة المظلومة من أهلها وذويها، وقد ابتعدوا عنها وهانت عليهم، لو كان الأمر بالفداء لوجدت العربية الآلاف من بنيها يفتدونها بأنفسهم وأموالهم، ولكن أمرها اليوم من شأن الدول والمؤسسات والسلطات المركزية لا الأفراد والجماعات، ونهيب بالمنظمات العربية والإسلامية، التعاون الإسلامي، والجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، لاتخاذ قرارات مركزية جماعية تنصف لغتنا تلافيًا لما أصابها من ذل وجحود وعقوق، فهي دعامة الأوطان التي تستند عليها العروش والكراسي وبعدها لن يكون لهم منها نصيب. يقول فيها الشاعر العربي السوري المسيحي عبد الحليم داموس:
لست وحـدي أفتديها
كلنـا اليـوم فـداهــا
نزلـت في كـل نفس
وتمشّـت في دماهـا
فبِهـــا الأم تغنّــــت
وبهـا الـوالـد فـاهــا
وبهــا الفــن تجلـى
وبهــا العلــمُ تباهــى
كلمــا مـــرّ زمــان
زادها فخرًا وجاهــًا
لغة القـرآن هــذي
رفــع اللــه لــواهـــا
فـأعيـدوا يا بنيهــا
نهضـة تحيي رجاهـا
لم يمت شعب تفانى
في هواها واصطفاها
اللغة أساس نهضة الأمم وتقدمها، والعناية باللغة لدى العارفين أولى من العناية بالاقتصاد والسياسة، اللغة أداة التفكير والتعبير، والعلم والعمل، فنحن نفكر باللغة، نفكر بوحي من عمل أيدينا فنتكلم، ونعمل بوحي من عقولنا، فنعبر، اللغة مفتاح العلم وجوهره، وركن السياسة وعماد الاقتصاد وناموس الاجتماع، وإرادة التغيير تبدأ من اللغة، فمن كانت لغته سليمة، كان تفكيره سليما. والتاريخ شاهد ما ضعفت أمة إلا بضعف لغتها، ولا اشتدت وقويت إلا بقوة لغتها، فهل من يجير المستغيث إذا دعاه. وللبقية صلة.