سلام الربضي
اليوم نجد صعوبة في تخيل مستقبل أفضل، على نحو جذري مما نحن فيه. وفي داخل هذا الإطار، لا يمكن بطبيعة الحال، أن نتصور لأنفسنا عالمًا، يختلف اختلافًا أساسيًا عن الحاضر الذي نحن فيه، ويكون أفضل في الوقت ذاته. فأمام القضايا العالمية المعاصرة، من البيئة والإرهاب، والفقر، وموضوع الأقليات، الثورة البيوتقنية، إلخ. ينقسم العالم إلى نصفين: قاتل وقتيل؟ ولكن، من يقرر أنه مع القاتل ضد القتيل، طالما جينات شقيق القتيل هي مع فكرة القاتل؟. إذًن، كيف نصوب البوصلة، لنفهم أن هذه الجينة ولدت من امتداد واحد، ودرست في كتاب واحد، وتسللت إلى دماغ واحد؟ وكيف إذن نورث عيوبنا وأخطاءنا لأولادنا، على أنها قيمة الحياة الفضلى؟.
ولسنا هنا، في معرض السؤال عن التطور الزمني والكمي، ولا عن كل الفلسفات والنظريات المنتجة، منذ نشأة التاريخ، ولا عن أصول الإنسان وجوهره. بل إن المراد والمناط بنا معرفته، هو مجموعة المعايير التي تحكم العلاقة بين فكرة الإنسان "واقعه" وفكره، وبين الغاية من وجود الإنسان أصلًا. فمعظم الدول المتقدمة حاليًا، تهتم بتشكيل اللجان لتقييم اكتشافات العلوم. وذلك بشكل أخلاقي، مثل مسألة الإجهاض الطبي، وأدوات منع الحمل، والاستنساخ والتلقيح الاصطناعي للمرأة، إلخ، وهذه اللجان العليا، تصطدم مباشرة، بتشعب المعرفة العلمية النقدية وتوسعها في الزمن الحاضر. فأي نمط من أنماط العقلانية، وأي مضمون من مضامين المعرفة العلمية والوضعية، يمكن الاعتماد عليه، من أجل تحديد مبدأ أخلاقي أو قيمي، للالتزام به؟؟ وكيف يمكن تبرير رؤيا أخلاقية معينة كمثال أعلى؟؟ وكيف يمكن التوصل إليها؟؟ وهل هناك قانون أخلاقي، على هيئة قانون عقلاني أو معقلن، يمكن أن يخضع السلوك الإنساني لمعاييره؟ وهل هناك من وقائع أخلاقية، ترتب سلم القيم الأخلاقية؟ وكيف يمكن التعرف إليها؟.
وأمام هذه التساؤلات من الضروري طرح إشكالية: هل العقل قيمة، ليدور العالم حوله؟.
إن كل شيء من حولنا وفينا وبنا، صار في حاجة إلى دروس ونظريات جديدة، تبحث عن عالم نرثه، كي نفهم صراحة ماذا أصبح يدور في العالم. فالعالم يهتز، وسلم القيم صار في حاجة إلى رؤية جديدة. ونحن أمام مشكلة اتجاهات، ومعانٍ تختلف في مضمونها، ولكن معاييرها واحدة. ويتم التشبث في جوهرها، وطبيعتها وحركاتها ومعرفتها، على أنها أساس ضامن للقيمة، سواء كانت فردية أم جماعية. فهل يبدأ الصراع بأن تختلف جماعة مع جماعة أخرى، أو بعضها مع كلها، أو مع جزء من آخر، كي تلد مناخات واعتبارات مخالفة للقواعد والأصول؟، فما هو المعيار الذي ينتج قيمًا؟ وما هو الأساس في قيمنا ومن يقرر ذلك؟ العُرف، العادة، النظام، القانون، البيئة، الواقع الاجتماعي؟ أم الثقافي؟، أو هل يمكن اعتبار الإبداع المعرفي، هو سمة قيمة أم سمة فرق؟ وماذا يستهلك الجيل والعالم الذي ندور فيه من طاقات، ليبلغ محطة الأنسنة الكاملة؟.
كل تلك الأسئلة، تدور لتشرح جوهر المعرفة، التي هي في الظاهر، انبثاق قيموي، أي مجموعة القيم،التي تتحكم بصيرورة العقل الإنساني. وهنا، من يحكم في إيجاد معايير الإرادة والفهم؟ ومن يقرر إذا كان عالم القيم اهتز إلى أدنى أو أعلى؟ وكيف نفسر ماهية الاختلاف على ضوء المتعارف، والمتدارك، والمستأتي؟ ومن يقول إن "السلم المعرفي للقيم قد اهتز، وأصبح العالم فكرة واحدة بعد أن كان أفكارًا مختلفة؟ إنه على ما يبدو عالم القيم الحديثة، الذي لا يشرح عن نفسه، بل يقول ما هو ماضٍ فيه. فلقد أصاب الفكر الحديث تطوران :
1- التقليدي : وهو لمصلحة العلوم المعيارية، مثل علم المنطق، الذي يحدد صلاحية أو عدم صلاحية كل حكم علقاني.
2- الجديد : يتساءل عن مدى كل بناء معرفي وكل خطاب إنساني.
وهنالك أيضًا، علم آخر يطرح مسألة الوجود والكينونة. فعلوم الإنسان والمجتمع تنمو في اتجاه، إضاءة كل أنواع السلوك على قاعدة تأسيسها وضبطها على التحليلات الوضعية الشاملة. أما الحكم الأخلاقي، أخيرًا، فهو يعتمد على نوعية المعارف التي نحصل عليها، بواسطة البحث العلمي لتوصيف النتائج. إذ أن استخدام مفهوم "الحس العملي"، أو الحاسة العملية العفوية والمباشرة، التي يتمتع بها كل إنسان مهما يكن مستواه الثقافي، يعني تحرير العلوم الاجتماعية الحديثة، وخطابها من عمليات التقطيع والاختزال والتجريد النظري، التي تبعدنا عن الواقع المدروس الذي نرغب في التوصل إليه وفهمه.
فالرؤى الأخلاقية، والمقاربة التاريخية والفلسفية، لا تسمح لأي موقف عقائدي دوغمائي أن يحدها. ولابد من تنشيط التفكير الأخلاقي، ذات الفعالية المعيارية القوية. ويبدو، أن التنقيب العلمي المعاصر لا يزال متأخرًا جدًا في هذا الإطار. فالدراسات الأكاديمية المتخصصة، التي تتناول موضوع علم الأخلاق، لا تزال نادرة ومخيبة للآمال، من الناحية العلمية. لأنها دراسات وصفية محضة، بالنظر للنصوص القديمة، والدراسات الحديثة. ولذلك يمكن التمييز بين أنماط الخطابات الأخلاقية، التي من خلالها يتبين نظام القيم :
المعياري السردي لاهوتي : الذي يضم التيارات الدينية.
الدنيوي الأدبي الفلسفي : الذي يقدم مادة للتيارات التحليلية.
كما أن موقع الأخلاق في ظل القانون الحداثي، يطبق خلافًا لنظم قانونية تقليدية، مبدأ "إن كل شيء مسموح به، ما لم يكن ممنوعًا صراحة". وهكذا ينفصل القانون عن الأخلاق. فقد أضحت لغة السوق، تتسرب وتعصر العلاقات الإنسانية كلها، لتتشكل التحدي الأساسي للنظام الاجتماعي والسياسي. والتي لا تعرف الأخلاقيات والحدود.إذ سيكون من المستحيل الاستمرار من دون إيجاد مفهوم جديد للفلسفة، وطريقة جديدة للتفكير في ماهية الحقيقة.وبالتالي، نحن في حاجة ماسّة، لتأسيس علم ما فوق الأخلاق، أي علم يدرس الأنظمة الأخلاقية كلها من أجل التوصل إلى قوانين اللغة الكونية. ومن الضروري تجديد الفكر أو تنشيط الفكر المستقل والنقدي، ضمن الخط الأخلاقي. ولكن عندئذ قد نسقط من جديد، في ساحة علم المنطق والإبستومولوجيا. فهذه الأسئلة خاصة بالفكر الحديث، لأن الفكر الكلاسيكي التقليدي، مرتهن وللأسف، للتيولوجيات المختلفة: يهودية،مسيحية،إسلامية، وغيرها، وليس للروح العلمية الجديدة ؟
*باحث ومؤلف في العلاقات الدولية في بيروت