صالح الرزوق
إن النصوص التي يديرها ممثل واحد، في مسرح صباح الأنباري، تستحق وقفة خاصة، لأنها أقرب لجماليات الزمان، وتنظر إلى الواقع بصيغة الماضي. وهذا هو التاريخ بمعناه العريض.. إنه ذكريات ومدونات من عهود لا يمكن أن نسدل عليها الستار لأنها ذات علاقة بما يجري حاليًا. فهي الماضي المستمر عند الذهنية الأنغلوساكسونية، أو بيت الذكريات والأرواح عند الذهن الفرانكوفوني واللاتيني، وهي أيضًا المدونة التي لها شكل السيرة الذاتية عند كل هؤلاء.
وبهذا المنطق لا يمكن تقسيم نظرته إلى التاريخ إلى نماذج وأنماط منفصلة، وبالعكس هو يوظف أساليب وأنماطًا عدة تتكامل في ما بينها. وبوجه عام يمكن تفكيك هذا الأسلوب لمجموعة من العناصر والمكونات.
1- في المقدمة كل ما له علاقة بتاريخ وذهن بلاد وادي الرافدين. وأقصد بذلك التاريخ الحضاري لشرق نهر الفرات. وغالبًا ما يكون التركيز على الوقائع الدامية والصراعات والحروب. ولو وضعنا بعين الاعتبار أن المسألة تبدو من طبيعة الأمور وليس تعبيرا عن الصعود الحضاري وما يستلزمه من توسع- ظاهِرُه التبشير برسالة المدينة وباطنه التعبير عن منطق وروح الانفجار الاقتصادي، يمكن أن نفهم الأبعاد غير الإثنوغرافية التي تنطوي عليها مسرحياته. فهو لا يعيد إنتاج المقابل الذهني لفكرة القوميين السوريين حين يعيدون تركيب أسطورتهم التاريخية الخاصة عن أمجاد الفينيقيين، كما هو الحال في معظم نماذج نذير العظمة ويوسف حبشي الأشقر، ولا المقابل الشوفيني للقومية العربية التي اخترعت أسطورتها الخاصة عن العلاقة الرحمانية بين الشخص والأرض، كما هو الحال عند نديم البيطار وصدقي إسماعيل. ولكنه يوظف مبدأ التحويل الفرويدي لفتح ملفات العنف والقهر والتناحر السياسي من دون أن يتعرض إلى مقص الرقابة. وعلى هذا الأساس بكل بساطة نستطيع أن نقرأ ما كتبه عن أوبشانيم والأمير أور زبابا وسوى ذلك، بعد استبدال هذه الأسماء بأسماء علم لشخصيات لك أن تختارها من أية صحيفة حكومية. وبعملية إبدال بلاغية بسيطة تتحول أيضًا أسماء العلم لمصطلحات أو موضوعات لها علاقة بأزمة المجتمع المعاصر وعلى رأسها الطاعة والولاء وفن الحكم وما شابه. أو بتعبيره الشخصي ( مسألة العلاقة الافتراضية بين السلطات على الأرض والسماء - مسرحية مذكرات كرسي ).
2- النوع الثاني وهو خاص بالتاريخ السياسي المعاصر. وتبدو رسالة صباح الأنباري هنا واضحة وبلا تفاصيل. ولذلك لا يهتم برسم ملامح وقسمات الشخصيات. ولا يبذل جهدًا لتحديد نوع الأزياء أو الديكور ومنه أثاث المنزل ومكان العمل، أو حتى طراز الهندسة المعمارية وتخطيط الشوارع والمدن. فهذا تحصيل حاصل ويرتبط بمعرفة مسبقة في ذهن القارئ وبالتالي المُشاهد. وبالمقارنة مع أحمد يوسف داود، الذي قدم للمسرح العربي أكبر عدد من النصوص التاريخية، نلاحظ كيف كانت التفاصيل في الديكور والمباني والسمات والقسمات المحسوسة للشخصيات تلعب دورًا في تمكين العلاقة البصرية مع القارئ. إن الشك في قدرة القارئ - والمخرج أيضًا في استكمال مثل هذه التصورات يرتبط فعلاً بالمسافة الزمنية التي تفصلنا عن زمن الأحداث. وكما نعلم جميعًا الزمن نوعان: زمن النص والزمن التاريخي. وكلما كانت المسافة بيننا أطول اقترب النص من معنى المدونة التاريخية. ولكن في مسرحيات صباح الأنباري إن لهذه المسافة عدة مستويات: أسطورية غير محددة ولها علاقة بنشاط الذهن. وشعبية تختصر عاطفة الأفراد المحرومين من الثقافة والتعليم من دون أن تلتزم بفترة أو حقبة معينة. وإخبارية تسجل وقائع معروفة من التاريخ الغابر والمعاصر. ولذلك إنها تبدو أقرب لمعنى المسرح الاجتماع - سياسي. فهي تحمل علامات نفسية فارقة تهم الإنسان المعاصر وقضايا المجتمع المدني، كالطغيان والفساد وسوء الإدارة في مختلف العصور. وفي رأيي أنه بذلك يقدم أول إشارة على بدايات الحداثة، لأنه يكسر المنطق الكلاسيكي المعروف للواقعية الطبيعية من تفاصيل في الشخصيات والمكان. وفي الوقت نفسه يهتم بالقيمة النفسية للشخوص. وعليه يتحول اهتمامه من الكناية إلى الاستعارة، ومن العلاقة الطبيعية للجزء بالكل، إلى علاقات التشبيه الناقص. ويسجل لغويًا انخفاضًا في عدد حروف وأدوات التشبيه. وهذه أول علامة حقيقية على الدخول في عصر الحداثة برأيي معظم النقاد.
3- النوع الثالث أسلوب السيرة الذاتية. ووجه التأكيد فيه العنوان الذي يبدأ دائمًا بكلمة ( مذكرات). وهل يتذكر المرء إلا الماضي الذي هو تاريخ غير مدون؟!..
ولكن يوجد فرق شاسع بين البيوغرافيا وفن السيرة عند صباح الأنباري. ويمكن دائمًا ملاحظة فواصل معنوية عدة بين مجريات الأحداث والمونولوج. أهمها أن السارد من نمط الراوي الذي يعرف كل شيء. وبالتالي هو الكاتب المسرحي نفسه الذي يمسك كافة خيوط ومجريات الأمور بين يديه. ثم إنه نموذج أو رمز غير عاقل كالتمثال والكرسي والشجرة، ولكن ينطبق عليه ما ينطبق على العاقل من السمع والكلام والشعور والرؤية. وهذا يؤهله ليلعب دور شاهد على عصره. وليس على مرحلة محددة من التاريخ فحسب. وقد فعلت الأعمال الضخمة والثلاثيات المعروفة ذلك، ولكنها كانت مشروطة بمنطق صراع الأجيال ودورات التاريخ، حيث أإن كل شخصية تمثل نفسها وجيلها، وبالتالي هي جزء من اللحظة النفسية للصراع.
بعبارة أخرى: لقد كانت كل فنون السيرة الذاتية شهادة على عصرها، ولكنها تحمل موقفا شخصيا. فالذكريات هي موطن للتجربة الشخصية والخبرات المرتبطة بها. وغالبًا ما يتم استغلالها لتحديد موقف خاص من الزمان والمكان. حتى إن بعض أهم الروايات التي تعتبر علامات فارقة في تاريخنا الأدبي كانت بضمير المتكلم، وتستند على وقائع من الحياة النفسية. وإذا كان من المبكر أن نبت بموضوع ضمير المتكلم في مونودرامات صباح الأنباري يمكن أن نتلمس بدايات لتعويم المعنى، بحيث أنه يأتي من فوق الموضوع وهو الصراع. مع الاحتفاظ بمكانته في المضمون والمغزى العام وهو الخطاب. فالأحداث في هذه النصوص المسرحية القصيرة لها شكل تفسير حالة. وتعبير عن موقف نفسي من عصاب لشعور عام.
4- أما النوع الأخير فيرتكز على مجموعة من العوامل والأساليب المساندة، كالأسطورة التاريخية غير المكتوبة، والملاحم التي لها نصوص وقراءات متنوعة، والسير الشعبية والحكايات أو المرويات الشفاهية. وهي كلها ذات علاقة بتصوير المجتمع والذهن في مرحلة غابرة من التاريخ. وإذا لم يعوّل صباح الأنباري عليها كما فعل سعد الله ونوس وآخرون اهتموا بالتراث الشعبي، كوسيلة لمعارضة الذهن الرسمي المهيمن، فقد قدمت له بعض الحلول الإخراجية لتغطية أحداث لها علاقة سببية ببعضها بعضًا، ولكنها تجري في أمكنة وأزمنة متباعدة. لم تكن، إذًا، الحكاية في هذه المسرحيات متسلسلة، ولكنه الخطاب. بمعنى أنه اعتمد على الفضاء الذهني العام للمشكلة المسرحية، وهذه إحدى العناصر الحداثية الأخرى التي ربطت لديه رؤيته للتاريخ بمفهومه للتحديث.
لقد لعبت مثل هذه التقنيات الدور نفسه الذي لعبه تيار الشعور، في أهم نصوص الحداثة، عند جويس وفوكنر ووولف. ولم يكن ذلك مجرد تعبير عن روح رومنسية لا تستطيع أن تتصالح مع نفسها كما هو حال غادة السمان. كانت اللغة والصور في أدب حداثة الستينات أداة ذاتية ووسيلة للإعراب عن التبرم من النفس ومن موقفها إزاء العالم الشخصاني. وقل الشيء نفسه عن جيل السبعينات، فقد تبنى هذه الرؤية الرومنسية المتبرمة والمريضة لينتقد بها واقعه وذهنه.
لقد كان حتى جيل السبعينات رهين المحبسين أيضًا. لا الشكل من عندياته، والمضمون يدور في مدارات وهموم شخصية ذات ديكور واقعي أو سياسي عام. وكان الهم الاجتماعي يقتصر على تحديد حاجات الطبقة المفترضة. فهي طبقة مثقلة برغبات فرضتها أدوات الإنتاج والسلع المستوردة.
**
لا نستطيع أن نؤكد أن لصباح الأنباري تراثًا ملموسًا في المسرح التاريخي. ولكنه يقتبس منه شذرات تتساوى في أهميتها مع ما يقتبسه من الواقع إنما من غير محاكاة. فهو يهرب من مواجهة ما يجري تحت ضوء الشمس وفي حياتنا المباشرة وبطرق عدة. منها التفكير السوريالي الذي ينظر إلى الواقع المادي كما هو نفسيًا، وليس كما يبدو للعين المجردة. ومنها أيضًا بالإحالات التاريخية. ولذلك يمكن أن يكون أقرب لروح التجريب بنسخته الحداثية، التي لا ترى ما حولها من الداخل ولكن من أعلى ومن خلف. وهذا يفترض التركيز على مبدأ التغريب والاحتفاظ بمسافة بين العقل والنفس، كما هي كل فلسفة الحداثة التي بشرت بها مدرسة فرانكفورت.
عموما توجد سوابق لمثل هذا الموقف التاريخي من الحداثة. خذ كتابات محمد الراوي على سبيل المثال. لقد وضعت الأداة في خدمة الأسلوب، وكانت العلاقة عضوية، والرؤية تجد ما يساندها من داخل التجربة الاغترابية لوجود يخرج من قوانينه. وإذا لم يلتزم صباح الأنباري في النص الواحد بشكل محدد من الرؤية للتاريخ، فهذا فقط لأن الذات لا تستطيع أن ترى الفضاء المناسب من داخل القانون المفروض لأية مرحلة. لقد وضع التاريخ بالتوازي مع حياة الرموز الشخصية، أو بالتقابل معها. وكانت رؤيته وفق قانون دينامية تحريك الدلالات والدوال (بالمفهوم الذي تحدث عنه دريدا في أكثر من موضع)، وهكذا قدم إضافة للمسرح التجريبي المعاصر، كما فعل في مسرحياته الصامتة التي على ما أرى هي محطة أساسية في المسرح العربي.
لا يزال أمام صباح الأنباري شوط ليقطعه قبل تأصيل المونودراما، ضمن تجربته المسرحية، سواء بمفهومه للتاريخ أو الحداثة. فهو لم يقدم لحينه غير عدد محدود من نصوص المونودراما. ولكن هذا لا يقلل من قيمة ما يفعل مع رفاقه الآخرين أمثال خالد الصاوي وقاسم مطرود ووليد إخلاصي، إلخ. إنه تمهيد لأسلوب مسرحي لمّا يزَلْ في بداياته في عموم الأدب العربي.