إذا أردت أن تعرف حجم الكارثة الحقيقية التي حدثت بملتقى التوظيف في كفر الشيخ ،والذي عُقد يوم الاثنين الماضي، اسأل محافظ الإقليم أين كان ولماذا لم يحضر الوزراء ورجال الأعمال ونواب البر لمان للملتقى "العظيم".
ودعا محافظ كفر الشيخ الآلاف من أبناء المحافظة بدعوى التوظيف منذ ما يقرب من شهر حينما كلف كافة الأجهزة التنفيذية بالإعداد جيداً لهذا الملتقى الذي سيكون فاتحة خير على شباب المحافظة من وجهة نظره ،كلف رؤساء الوحدات المحلية كافة بدعوة الشباب عبر ميكروفونات المساجد وعبر سيارات تجوب شوارع قرى وعزب المحافظة لإعلام المواطنين بهذا الملتقى المزعوم .
وبدأت الوحدات المحلية على مدى أيام طوال في تلقي طلبات التوظيف من الراغبين في ذلك عن طريق قيام المتقدم بملء استمارة واخذ كارت دخول لملتقى التوظيف، وفي يوم الاثنين "الأسود" ،ذهبت ليس للتقديم على هذه الوظائف إنما لتغطية الحدث العظيم ،كوني مراسلة صحافية إلى إحدى الجرائد .
رأيت زحاماً شديداً على موقف السيارات بمدينتي الحامول وكفر الشيخ ،وقتها أيقنت حجم الكارثة ،فالكل يتدافع على السيارات المقبلة ليصل مبكراً لهذا الملتقى ،منظر مخيف ،سائقين يحملون حمولات زائدة في سياراتهم ،يتسارعون على الطرق من أجل اللحاق لتحميل مرة أخرى ، لولا عناية الله لكنت ضمن موتي من ركاب السيارة التي انقلبت على طريق الحامول-كفر الشيخ وراح ضحيتها 5اشخاص وإصابة 14 آخرين ، والتي كان مقرراً أن أستقلها لكن الله لم يرد .
وصلت مدينة كفر الشيخ ،زحاماً لم اره من قبل على الموقف العمومي، سيدات يحملن أطفال ،رجالاً وشباباً ،امتناع سيارات السرفيس عن تحميل الركاب بدعوى عدم التمكن من الوصول لإغلاق الشوارع وخاصة شارع الإستاد، سائقين يهمسون "شارع الإستاد تحول لسويقة ".
سائقو التاكسي هنزلكم عند شركة المياه من الخلف الشوارع كلها مقفلة الآلاف من أبناء المحافظة متواجدون لحضور الملتقى والحصول على وظيفة في حضور وزراء ورجال أعمال ،منظر مرعب ،سيارات تلف ،ترى الحواجز الحديدية منتشرة بداية من أول الشارع وكأنك في (ميدان تحرير) أخر أو في تظاهرة كبيرة ،لم تتوقع ان هذا الجمع جاء من أجل الحصول على وظيفة ،أفراد امن منتشرون ،يشكلون دروعاً أمنية وكأنك في حرب ، تحاول أن تترجل قليلاً على قدميك للوصول لبوابة الإستاد لكنك لم تسطع إلا بصعوبة .
تصل بالقرب من بوابة الإستاد الرئيسية تجد الآلاف شباب ،نساء ،حتى أطفال ، سيدات يصرخن من كثرة الزحام ، فتيات تركن بيوتهن من أجل تحقيق حلم "الوظيفة" ، دقائق قليلة وتتعالى الصيحات شباب محمولين على الأكتاف يهتفون ضد محافظ كفر الشيخ "افتح البوابة ،عاوزين ندخل"،كانت كلمات يرددها الآلاف من الشباب والبوابة الرئيسية مازالت مغلقة والآلاف يتدافعون نحوها ، شباب يتسلق سورها وأخرون يهتفون بصوت عال
سيدات فجأة تتعالى صيحاتهن ،وفتيات ينادين بأعلى أصواتهن "انقذونا" لحظات مخيفة ،تنطلق نحو فتاة في العقد الثاني من عمرها تصرخ بأعلى صوتها "الحقوني أنا حامل بموت "، نسيت التدافع ونسيت أنني من الممكن أن أتعرض لخطر ،اندفعت نحوها مسرعة وأنا ممسكة بحقيبتي الشخصية وأخرى خاصة باللاب توب ،حاولت إنقاذها بعد تعرضها للنزيف ، لكن التدافع كان أقوى والقدر كان له كلمة أخرى ،أتصلت بالدكتور احمد الجنزوري، مدير مرفق إسعاف كفر الشيخ في محاولة لأرسال سيارة إسعاف لإنقاذ تلك الفتاة لكنه لم يسمعني من كثرة الصراخ والعويل والتدافع والهتاف .
أغلقت هاتفي معه ولحظات وتم فتح البوابة وتدافع الآلاف في وقت واحد ، رأيت النساء تُدهس تحت الأقدام ، الفتيات عاريات الراس ،الرجال والشباب تخطوا كافة الحواجز الحديدية في محاولة للدخول أولاً للتسجيل ، جنود الأمن يحاولون السيطرة ،ضباط الشرطة يحاولون إنقاذ السيدات والفتيات ،هُلكت من كثرة التدافع حتى أنني لم اعد قادرة على التقاط أنفاسي ولم أدر بنفسي إلا واللواء فرحات محمد على ،حكمدار مديرية امن كفر الشيخ يدفعني من وسط هؤلاء في محاولة منه لإنقاذي أنا وأخرين من السيدات .
دفعني إلى الجانب ودفع سيدة أخرى عُري رأسها وساعدها في الحصول على حجابها ،لحظات مخيفة تلك التي عشتها في ذلك اليوم المشؤوم ،سقطت على الأرض ، أٌغشي عليّ للحظات ،لم ادر من الذي اخذ حقيبتي وموبايلي، رآني أحد موظفي المحافظة فسارع لإنقاذي، والتف حولي عدداً من الفتيات والشباب الذين يعرفونني ،لم تستطع سيارات الإسعاف الوصول إليّ تنفيذيين يقفون بجواري رافعين جهاز (اللاسلكي)،غير قادرين على فعل شيء ، فوضى عارمة اجتاحت المكان، فحملني أصدقائي إلى سيارة الإسعاف ونقلوني إلى مستشفى كفر الشيخ العام بعد وضعي على جهاز التنفس داخل السيارة .
في المستشفى العام ،بدأ فصلاً جديداً من فصول المسرحية الهزلية ، عشرات المرضى في طرقات الاستقبال ،ممرضات يجلسن على "الديسك المتواجد بالمكان، طبيب يضع يده في فمي ليتأكد من تواجد "لساني" في مكانه خوفاً من ابتلاعه وهو إجراء طبي مهم ، غرف ممتلئة ،أسرة ممتلئة هي الأخرى بالمرضى والمُصابين ،حطوها هنا مش لاقين سرير ،حاولوا تحطوها بجانب أي شخص ، وبالفعل تم وضعي بجانب احدى السيدات ،بسرعة علقوا لها تنفس ،جاءت ممرضة دون توقيع الكشف علي من طبيب ووضعت لي الجهاز ، أصرخ من شدة الألم في منطقة القلب، غير قادرة على التقاط أنفاسي، ألم يؤلمني بجانبي الأيسر ،ضربات قلب سريعة من أثر ما تعرضت له ،أكثر من ساعة ولم يأت الطبيب ،ولم يكن معي موبايل للاتصال بالمحافظ أو غيره من المسؤولين .
طلبت من الموظف الذي كان يرافقني إجراء اتصال بمكتب المحافظ ،وبالفعل فعل ذلك بعدها بما يقرب من ثلث ساعة جاء طبيباً وسأل عن اسمي وامر بتحويلي لإجراء أشعة بعد مشادات حدثت بينه وبين احدى الممرضات ، حملوني على "الترولي"، وذهبوا بي إلى مكان أشعة الصدر ،والمفاجأة انه في ظل الطوارئ وعشرات المصابين "الجهاز مُعطل "، ظل هذا الرجل الذي كان يرافقني يصرخ في وجه الأطباء والممرضات إلا إنني طلبت نقلي للخارج بعدما استطعت تدريجياً التقاط أنفاسي ،ولكنه أصر على بقائي لحين إصلاح الجهاز ، تم إصلاحه وأجريت أشعة على الصدر وأخرى تليفزيونية ،وطلب من احدى الممرضات أن تعطيني حقنة مسكنة للألم.
أثناء مغادرتي للمستشفى بعد اكثر من ساعتين ، وجدت مجندان يحملان أخر بين ذراعيهما ويجريان به إلى أحدى الغرف ، ورأيت أيه احمد ، تلك الفتاة التي كانت غارقة في دمائها ، مُمزقة ملابسها تصرخ بأعلى صوت الحقوني ، الجروح تملاً وجهها والألم شديد عليها وعلى ما يبدوا أنها مُصابة بكسور مثلها مثل هذا المجند الذي كان يصرخ ، لحظات ومجندًا أخر محمولاً بين يدي زملاءه ،فوضى وهرج ومرج باستقبال المستشفى ، ممرضات مازلن جالسات على الديسك ،وأخريات تجري لإنقاذ المصابين ، عجز فى الأطباء ، ونقصاً في المستلزمات والمصابين يئنون .
غادرت المستشفى وأنا أتساءل ما الذي حدث، أين المحافظ ، أين الوزراء ، أين أعضاء مجلس النواب ،ووقتها علمت أن محافظ الإقليم خارج المحافظة ويحضر مجلس المحافظين رغم انه تفقد مكان إقامة الملتقى في اليوم الذي سبقه وأطمئن على جاهزيته ما يوحي لك كصحافي أن الحدث سيكون عظيم خاصة مع إعلانه عن توظيف 11الف شاب وفتاة ، يا الله ما هذا الرقم ، فالمحافظة نظمت ملتقيات كثيرة لم يحضر إليها الشباب ،لكن الدعاية هذه المرة كانت تفوق الخيال ،صفحة المحافظة الرسمية على "فيسبوك" كانت شغلها الشاغل التسويق لهذا الملتقى ،الوحدات المحلية دفعت بمكبرات صوت في القرى .
جيوش من العاطلين فجأة انطلقوا نحو تحقيق الحلم بعد الدعاية الضخمة والتي من بينها ليه تدور على وظيفة مكانك محجوز عندنا في كفر الشيخ أدخل وسجل في ملتقى التوظيف ، بما يوحى لهؤلاء الشباب انهم سيحصلون على فرصة عمل حكومية بها كافة المزايا والتأمينات ،تلك الحلم الذي طال انتظاره ظنوا انه جاء ت الفرصة لتحقيقه ،تركوا أعمالهم وبيوتهم وانتقلوا إلى مكان "الملتقى ".
تحول المكان لمهرجان شعبي كبير رغم التحذيرات الأمنية ، لم يبالٍ المحافظ بما حدث وأصر على التباهي عبر الفضائيات بأنه ملتقى ناجح وسيحقق ال30الف وظيفة للشباب عقب حضور 85الف شاب وفتاه حسب تقديراته ، أكد أن الآلاف من أبناء المحافظات الأخرى هم سبب التدافع وبالتالي سبب الكارثة ،منذ الاثنين والمحافظ يتنقل بين القنوات المختلفة ليتحدث عن الإنجازات التي تشهدها المحافظة في عهده ، غير عابئ بما حدث ولم يشعر بحجم الكارثة .
المحافظ اتهم وسائل الإعلام بترويج الشائعات ولم يعترف بحجم الكارثة وأكد أن المصابين هم 3اشخاص فقط وسيتم علاجهم على نفقة المحافظة ،’في حين أن وزارة الصحة أعلنت في بيان رسمي تداولته كافة وسائل الإعلام أنهم 79 مُصاباً واعلن مرفق الإسعاف انهم 166الا انه حذف الإحصائية ،فيما أعلنت مديرية الصحة بكفر الشيخ ،انهم 48مُصاباً ، يا الله ما هذا التضارب في الأرقام من جهات رسمية معنية ؟.
أنا أقولها وهذه شهادتي أمام الله أن المصابين تخطت أعدادهم ال200فرد وتنوعت إصاباتهم ما بين إغماءات وسحجات وكدمات ،ومنهم من لم يذهب إلى المستشفى او تنقله سيارات إسعاف لكن المنظر كان مرعباً ،وأقول لمحافظ كفر الشيخ لسنا كصُحافين من يروجون شائعات ،إنما أجهزتك هي التي أوهمت هؤلاء الشباب فكانت الكارثة.