سيدة قصة قصيرة لـ عبير درويش

وضعت إبهامها على حافة الكوب، وباليد الأخرى باحتراف اعتلت "البراد" الداخن؛ وتحسست منفذ البخار المتلظي، فأرخت يدها للوراء ممسكةً بتلابيب اليد المعزولة؛ لترفعه إلى الكوب الآنف ضبطه بمؤشر الإبهام، وظلت تسكب حتى قبيل لمس الماء المغلي لإصبعها؛ وأعادت كلٍ لموضعه؛ وباشرت التقليب؛ ثم الارتشاف بنهم وهي تبتسم ساخرة مني، وكأنما تراني تعلو وجهي الدهشة من كيفية تتناغم مع ظلامها، ومثلي تتخبط في خفوت إنارة حجرة عالم كامل، ما سمعته من أمي عنها أنها "سيدة".

تلك الأرملة الكفيفة التي تعيش في المنزل المتهدم؛ وتتناوب على زيارتها شباب وفتيات الجوار بناءً على توصية ذويهم.. ما اسمك خالتي ؟

"سيدة": لا تتعجبي صغيرتي.. كنت أبصر؛ وكنت شابة جميلة وفتية.. هيه؛ ترملت ولم أرث غير 8 من الأفواه الجائعة؛ ولم أكن مثلكن أقرأ وأكتب وأرتاد الجامعة؛ بل امرأة ريفية جنوبية الموطن والرأس والقبيلة.. لم أملك خيارًا بين أن أترك فلذات كبدي لأهل زوجي كما نصحني أبناء جلدتي.. أو البقاء بالمدينة؛ واحتال على قوتهم وقوتي.. وتبادر لي إعجاب الجيرة من الحضر بما أصنع من خبز شمسي وبتاو وفايش.. والخبز الأسمر الملدن.

المرحوم زوجي أخلص في صنع فرن طيني وأغشاه بالفخار؛ كان يتفاخر أمام أقرانه بأنه يهنأ بما أبرع فيه.. قررت.. سأخبز.. هكذا مزجت أملي وملحي واختمرت الصبر؛ وساعدني أبنائي الخمس، "وهي تشير بكف يدها إلى وجهي" في تجميع مخلفات العصير ومحلات النجارة ليلًا، وكل ما يمكن أن تلتهمه نار فرني الغالي؛ وساعدتني بناتي في العجن وتقطيع الخبز فجرًا.. هيه.. "اختبأت وراء لهيب فرني الطيني لأتجنب جهنم العوز".. وذاع صيتي بالحي؛ وأدمنوا خبزي وكعكي اليابس؛ ومادوا طراوة ولدانة خبزي الأسمر ورقاقي المشجوب بالحليب؛ وفطيري المختال في سمن الناهمين.. أبيع لمن يملك المال.. وأقايض بالحليب والبيض واللحم.. هيه.. وأحيانًا بحلاقة لذكر منهم؛ أو قطع من الصابون النابلسي.. ولا تتعجبي فوق ذلك السطح المتهدم كنت أملك ما يقرب المزرعة من ديكة وبط وأوز.. كنت أرقب فقسهم؛ وأطعمهم بقايا فلذاتي.. في ذلك المنزل الذي يبدو لكِ حطامًا؛ علمت أولادي إلى حد التباهي بهم في أعين أعمامهم المتخاذلين وأخوالهم المستنكرين.. وزوجت بناتي زيجات ترفع لها الهامة وتستقيم؛ وليس سترًا فقط.

ما سبب فقدانك للبصر خالتي ؟

البعض ظن أنه صهد فرني الغالي.. لكن السبب اتضح فيما بعد بأنه مضاعفات مرض السكر.. هيه.. الشقاء بنيتي كفيل بالهدم مثل فرني الغالي..

أنا ركام ورماد الآن لا أكثر.

أين أبناؤك؟

سافروا جميعًا لكنهم يراسلونني.. اقرأي لي الرسائل فأبناء الجيرة عندما يسلمون الخطابات يقرأونها مرة واحدة شحيحة.. أرجوكِ أعيدي إلى مسامعي كلماتهم، وناولتني علبة كرتون خاصة بالأحذية مكتظة بالورق.. "الورق الأبيض الناصع تمامًا".