غزة ـ كمال اليازجي
عاد مهند يونس، وهو طالب يبلغ من العمر 22 عامًا، إلى منزله في أحد الأحياء المزدهرة في قطاع غزة، في أحد ليال شهر أغسطس/ آب الماضي، وكان في حالة مضطربة، ومكتئبًا، حسبما قالت والدته والتي تدعى أسماء، لكنها لم تكن قلقة للغاية، حين دخل غرفته وحبس نفسه.
أشتهر بقصصه الحزينة على "فيسبوك"
وكان يونس كاتبًا موهوبًا، كتب العديد من القصص ونشرها على موقع "فيسبوك"، وتمكن من جمع جمهور واسع، كان على وشك التخرج من كلية الصيدلة، وبتقدير ممتاز، ولكن كتاباته كان بها نبرة من الحزن واليأس من جيله، وهذه الكتابات مكنته من الهروب قليلًا، فغالبًا ما كان يغلق باب غرفته ويبدأ في القراءة والكتابة.
ولم يفتح مهند باب غرفته في صباح اليوم التالي، واستعانت أسماء بشقيقها أسعد؛ ليساعدها في فتتح باب الغرفة، لتجد ابنها ميتًا، بعدما انتحر وخنق نفسه، فيما استقبلت وسائل التواصل الاجتماعي في غزة وخارجها خبر موت مهند، بصدمة واسعة وحزن، وكتب أحدهم على "فيسبوك" "كان أحد المقاتلين والذي نشر قصصه الحزينة لتقاتل معه"، ولكن الحداد العام لوفاة الشاب الموهب كان رمزًا لمأساة انتحار شاب وكذلك غيره من الشباب، حيث القطاع الذي يموت فيه الشبان الصغار بسبب بؤس الحصار واليأس من المستقبل، فبالفعل شهدت غزة زيادة نسبة حالات الانتحار بين شبابها الموهوب.
اليأس يسيطر على شباب القطاع
وحازت الأحداث المرعبة في غزة في الأسبوع الماضي، على اهتمام العالم، إذ معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة، واليأس الذي يحاصرهم، وضياع أرواح عشرات الآلاف من الشباب بسبب الاحتجاجات، فمنذ بداية مسيرة العودة الكبرى، وهي سلسلة من الاحتجاجات التي بدأت في نهاية مارس/ آذار، قُتل أكثر من 100 شخص، معظهم بفعل القناصة الإسرائيليين المتواجدين خلف السياج الحدودي.
وبدا الأمر أن هؤلاء الشباب يلقون بأنفسهم أمام الرصاص الإسرائيلي، ولكن في الأيام الأولى من الاحتجاجات، قال الشباب في المنطقة العازلة على الحدود إنهم لا يهتمون بالموت، وقال مراهق عند الحدود بالقرب من خان يونس "على أي حال، نحن نموت في غزة، وربما نموت هنا بالرصاص، كليهما يعد موتًا"، وكان الشاب مع أصدقاء يشعرون بالشيء نفسه، بما فيهم شاب ساقه مبتورة ويجلس على كرسي متحرك.
وإذا تحركت كاميرات العالم بشكل أعمق داخل قطاع غزة، حيث الشوارع وخلف أبواب منازل الشعب، سيرون أن اليأس تقريبًا في كل منزل، فبعد 10 أعوام من الحصار، يعيش سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة، دون عمل، ويُدمر اقتصادهم، ولا يمتلكون أساسيات الحياة الكريمة، ولا كهرباء أو مياه نظيفة، كما لا يوجد بينهم أي أمل للحرية، أو أي علامة تدل على تغيير وضعهم.
حصار غزة سبب زيادة الانتحار
إن الحصار يُفسد العقول، ويدفع الكثير للانتحار، حيث أعداد لم يسبق لها مثيل، وحتى وقت قريب، كانت عمليات الانتحار نادرة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى مرونة الشعب الفلسطيني والتي اكتسبها بفعل 70 عامًا من الصراع والشبكات القبلية القوية، كما أن الانتحار فعل مُحرم في الإسلام، والذي يعتنقه غالبية سكان غزة، فقط يعد الانتحار حلال حين يتعلق بعمل جهادي، حينها يعتبر الشخص شهيدًا، ويذهب إلى الجنة، أما الانتحار لسبب آخر يقود للذهاب إلى النار
ولم نسمع عن قصص الانتحار قبل عام 2016، ففي بداية ذلك العام، وبعد 9 أعوام من الحصار الكامل، أكد طبيب جراح بريطاني متطوع في مستشفى الشفاء في غزة، أنه وزملائه شاهدوا عددًا من الإصابات غير المبررة، والتي يعتقدون أنها بفعل عمليات انتحارية مثل القفز من على أسطح المباني الشاهقة، وبحلول نهاية عام 2016، زادت حالات الانتحار بدرجة كبيرة، لدرجة أنها أصبحت ثقافة عامة، وتشير الأرقام التي نقلها صحافيون محليون إلى أن عدد حالات الانتحار في عام 2016 كان ثلاثة أضعاف عام 2015 على الأقل، لكن وفقًا للأخصائيين الصحيين في غزة يؤكدون أن العدد أكبر من ذلك.
وتحاول عائلات الشباب المنتحر تغيير سبب الوفاة، نظرًا لوصمة العار التي بسبب الانتحار، وفي هذا السياق، قال الدكتور يوسف عوض الله، طبيب نفسي في رفح " لم نواجه هذه الأفعال الكارثية منذ عشرة أعوام"، حيث يلقي أخصائيو الصحة النفسية باللوم على الحصار وأثاره في ارتفاع حالات الانتحار، حيث دمر الشباب عقليًا وجسدًيا، أكثر مما فعلت الحروب المتتالية، كما يحذر الأطباء في غزة من أن الحصار المطول للأراضي ربما يتسبب في وباء للصحة العقلية، حيث إن حالات الانتحار لا تمثل سوى جزء من حالات الإجهاد اللاحق بالصدمة والفصام وإدمان المواد المخدرة والاكتئاب، ولذلك للمرة الأولى بدأت منظمة الأونروا، وكالة الأمم المتحدة المسؤولة عن اللاجئين الفلسطينيين، بفحص جميع مرضى الرعاية الصحية خاصة من لديهم ميول للانتحار، في أعقاب ما وصفوه بأنه زيادة غير مسبوقة في عدد الوفيات بفعل الانتحار.
الانتحار يسيطر على الأعمار كافة
ويؤكد الأطباء في غزة أن الرجال والنساء من مختلف الفئات العمرية والخلفيات الاجتماعية، عرضة للانتحار، ففي شهر مارس/ آذار الماضي، شنقت فتاة تبلغ من العمر 15 عامًا نفسها، وكذلك صبي 16 عامًا، ومن بين المنتحرين رجال يائسون لأنهم لا يستطيعون إعالة أسرهم، وكذلك النساء والأطفال بسبب الفقر الشديد، حتى النساء الحوامل واللاتي تقلن إنهن لا يرغبن في ولادة أطفال في غزة، إذ في أبريل/ نيسان الماضي، انتحرت امرأة حامل في الشهر السابع، بقطع معصمها.
وتزيد حالات الانتحار بين الطلاب، حيث يقتلون أنفسهم قبل أو بعد التخرج، حيث لا يرون أي مستقبل يساعدهم على البقاء على قيد الحياة في قطاع غزة.
رغم انتحاره.. مهند شهيد
جذبت قصة مهند، اهتمامًا خاصًا، ليس بفضل كتاباته وحدها، ولكن الصورة الخيالية التي تركها شاب في منتصف العمر في قطاع غزة، فقد كان محل إعجاب، ووصفه البعض بالشهد بعد وفته، حتى أن والدته قالت إنه " أكثر من شهيد"، وقال أصدقاء إنه حارب العدو بقلمه، وتوفي ضحية للحصار، كما أن موت مهند حاز أيضًا على إشادة من العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي نظرًا لشجاعته، حتى أن وزير الثقافة الفلسطيني الدكتور إيهاب بسيسو، أشار إلى أن الشاب يعد شهيدًا، قائلًا "لا حاجة للاعتذار عن رحيله المبكر، كما أن قصته لن تُنسى مطلقًا، وسيظل مهند أحد عمالقة عصرنا".
وانتشر الخوف في غزة وسط النقاش حول استشهاد مهند، خاصة بين الآباء الذين يخشون من أن يفعل أطفالهم نفس الشيء، إذا اعتقدوا أن الانتحار لن يقودهم إلى النار في الآخرة، حيث أخبرني أحد الآباء والذي تخرج ابنه من الجامعة مؤخرًا " نرى أطفالنا من خلال المدرسة والجامعة وهم يعملون بجد، وحريصون على دخول العالم والحصول على وظائف، وأن يصبحوا بشر طبيعيين، ومن ثم لا يحصلون على شيء، وإذا أصبح الانتحار أحد الأعمال النبيلة، سيختارون هذا الطريق، إن الأمر خطير للغاية".
وربما تساءل مهند ما إذا سيكون شهيدًا، حيث في قصة تسمى "الشهيد غير المعروف" نُشرت بعد وفاته في مجموعة تسمى أوراق الخريف، يصف مهند كيف تم إحضار جثة مجهولة الهوية إلى مستشفى الشفاء، وكيف تحاول العائلات التعرف عليها، ويتساءل " هل سيعرفونني؟".
وكتب مهند عن حزنه الشخصي، وطلاق والديه حين كان طفلًا، ورفض والده له، يمكن لقراءه
لمس هذا الألم بداخله، وكان لديه نسبة كبيرة من القراء الإناث، جذبهن بسبب حزنه الخاص، وقالت إحداهن "كان يكتب عن معانتنا وإذلالنا".
انتحار مهند تعود جذوره إلى عام 1948
وطُردت عائلة مهند في عام 1948، حيث الحرب العربية الإسرائيلية والتي أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل، بجانب أكثر من 750 ألف فلسطيني، ولم يُسمح لهم بالعودة حتى الآن، وتقع قرية جورا والتي تنتمي إليها عائلة مهند، تحت سيطرة إسرائيل، عند ميناء أشكول، وكانت جدة مهند والتي تدعى مدللة، تخبره القصص وكيف كانت تعيش قبل الاحتلال، وتقول "كنت أحكي له عن الاحتفالات والمهرجانات، أعتقد أنه كان يسمع القصص ويكتبها لينشرها، أخبرني سابقًا أنه يريد العودة إلى القرية قبل أن يموت، ولكنه مات في غزة، كان مهند حزينًا جدًا".
ولد مهند في عام 1994، حينها كانت تمر فلسطين بتجربة، إذ ظهرت أولى ثمار اتفاقات أوسلو للسلام، وكان الهدف وضع حد تدريجي لاحتلال إسرائيل للأراضي التي احتلتها في عام 1967، حيث غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي المناطق المخصصة لبناء الفلسطينيين لدولتهم.
ومرت الأعوام حتى وصلت الأمر لسيطرة حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007، لتدخل ثلاثة حروب مع إسرائيل، كانت الأكثر فتكًا هي حرب عام 2014، حيث قٌتل أكثر 2200 فلسطيني، من بينهم 500 طفل، وبدأ مهند بكتابة الكثير عن الموتى، وسط مشاعر الانتحار البسيطة، ولكن بعد مرور عامين انتحر مهند، وتبعه العديد من الشباب الفلسطيني الذي بات لا يكترث الموت نتيجة لما رآه من مآسي وتعذيب وحصار.