مأساة العودة إلى المناطق المحررة

سيطر تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من العراق ومدنها المختلفة مثل الموصل والفلوجة وبدأت خلافتهم المزعومة تتسع يومًا بعد يوم، ومن أهم المناطق التي سيطروا عليها مدينة جولاء جنوب العراق ذات الأهمية الإستراتيجية فهي تقع على الحدود العراقية الإيرانية، إضافة إلى غناها البشري والمادي.

ويروي العراقي عاصم دارا علي من جولاء ليلة اقتحام "داعش" للمدينة في 11 أغسطس/ آب 2014، حيث كان عاصم في منزله وزوجته تضع اثنين من أطفاله في السرير ليلًا بينما سمعوا صياح "الله أكبر" من المسجد، وفي الوقت نفسه كان المسؤولون الأكراد في أربيل يعلنون سقوط جولاء في أيدي "داعش" ، وأعلن التنظيم سيطرته على البلدة من مآذن المساجد، وفي هذه الليلة طلب عاصم من زوجته وأولاده الاختباء تحت الدرج، وتقول الزوجة "كنا مستيقظين طوال الليل ونخشى أن يقتحموا المنزل ويقتلونا".

وظنت حنين ابنة عاصم وعمرها 8 سنوات عند سماع صيحات الله أكبر أن نهاية شهر رمضان قد حانت، إذ كانت هذه نفس الكلمات التي سمعتها عند انتهاء الشهر الكريم للإعلان عن حلول العيد، وبالفعل ظنت الطفلة أنه العيد حيث الاحتفال بالهدايا لكن الحقيقة كانت مختلفة، ويوضح عاصم أن الناس بدأوا يهربون من الطرق الخلفية للمدينة عندما اقتحمها "داعش"، وغادر عاصم وأسرته في اليوم التالي متجهين إلى منزل والدي زوجته طيبة في بغداد ولم يكن هناك أي وقت إلا لأخذ بطاقات الهوية.

ويوضح عاصم عند عودته مرة أخرى إلى جولاء بعد استعادتها من قبضة "داعش" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أنه لاحظ شيئين عند المرور بجولاء على الطريق الأول وجود العديد من الأشخاص يبيعون المنتجات المحلية والثاني هو العديد من نقاط التفتيش، حيث حولت قوات البشمركة الكردية المدينة إلى قلعة محصنة منذ استعادتها، ويصطف عند المدخل العديد من السيارات والضباط والجنود الذين يراجعون على وثائق الأفراد للسماح لهم بالمرور.

وكانت جولاء من البلاد التي ترغب في زيارتها والعيش بها، وبلغ عدد سكانها 80 ألف نسمة، وتضم 12 مسجدًا ومدارس جيدة ومستشفى وأطباء مهرة، ونادي للشباب يقدم دورات الكاراتيه، وتميزت المدينة بسوق ضخم يباع فيه كل شيء بدءًا من البطيخ والطماطم إلى المجوهرات والهواتف المحمولة.

وفر معظم سكان البلدة خلال 15 شهرًا من احتلالها من قبل "داعش" إلى البلدان القريبة وإلى بغداد أو إلى أماكن بعيدة في العراق، وبقيت في المدينة 300 عائلة فقط إما لأنه قيل لهم أنهم سيكونوا آمنين تحت حكم "داعش" أو لأنهم كانوا متعاطفين معهم، وأحرقت "داعش" المنازل والمحال التجارية الخاصة بالأسر الشيعية والكردية وفجرت مسجد شيعي وقتلوا أي شخص على صلة بالجيش العراقي، وشمل عدد القتلى 20 مدنيًا و175 من البشمركة و40 من قوات الأمن الكردية "الأسايش"، وتم نهب المنازل كافة أيضًا.

واستعادت قوات البشمركة جولاء بعد معركة استمرت يومين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وتم تطهير المدينة من العبوات الناسفة وفي فبراير/ شباط تم إعلان المدينة باعتبارها آمنة للمدنيين، ولا يزال هناك الحاجة إلى المزيد من العمل في المدينة فالمباني مهجورة والمحلات آيلة للسقوط، حيث تحطم نحو 85 في المائة من المدينة.

 وبعد أشهر من فراغ المدينة بدأ الناس يتحركون بالتدريج، ووصل عدد السكان بها إلى 66 ألف شخص، وأصبح من الممكن تناول الشاي في كؤوس زجاجية في السوق وشراء الخضار والملابس والذهاب إلى العيادة الصحية في ظل وجود طبيب للأسنان وطبيب بشري وصيدلية، إلا أن الحياة الطبيعية لم تستأنف بعد فلا زالت هناك 20 في المائة من المنازل دون ماء لأن الحكومة لم تدفع فاتورة بقيمة 650 ألف دولار لإصلاح إمدادات المياه في المدينة، ولا تزال هناك 7 مدارس مغلقة مع وجود نقص في المعلمين، كما قللت المستشفى من خدماتها حيث أصبحت تقدم خدمة "A&E" ورعاية الأسنان فقط، وشوهد رجال يرتدون الزي الموحد ويقومون بدوريات في الشوارع، وهناك أيضًا حظر تجول على مستوى المدينة في بعض الليالي.

ويوضح المواطن هيوا جباري (40 عامًا) يدير صيدلية صغيرة في الطابق السفلي من عيادة الصحة أن الحالة العامة في جولاء تتلخص في "نحن لا نشعر بالأمان، "داعش" حولت المكان إلى مستشفى وعالجت جنودها المصابين هنا، وسرقوا كل شيء"، في إشارة إلى عقاقير بقيمة 200 ألف دولار تم نهبها فضلًا عن معدات الإسعافات الطبية، ونهبت "داعش" الكثير من المعدات حيث سرق المقاتلون وحدات تكييف الهواء من مكتب هيئة المياه وآلات الحفر ومولدات المدارس وأجهزة الكمبيوتر من نادي الشباب.

وعاد عاصم وعائلته إلى جولاء في يونيو/ حزيزان إلى متجر الزفاف الذي يديره بالقرب، وتقول زوجته طيبة (26 عامًا) التي تصغره ب 30 عاما أنها وقعت في حبه لأنه رجلًا وليس مثل بقية الصبية في عمرها، والتقيا الاثنان مع بداية حرب العراق عام 2003 عندما هربت عائلة طيبة إلى جولاء بسبب تفجير في بغداد، وعادت العائلة مرة أخرى في 2006، وحينها طلبها عاصم للزواج وكان عمرها 16 عامًا حينها، وشجع عاصم زوجته للحصول على عمل على عكس غيره من الرجال العراقيين.

وبالفعل حصلت طيبة على صالون للشعر وأطلقت عليه اسم "حنين"، وأوضح عاصم أنهم عندما عادوا إلى المدينة وجدوا متجره والصالون محطمين، حيث حاول متطرفو "داعش" حرقه لكنهم نجحوا فقط في تكسير المرايا والنوافذ، وأفاد عاصم "أخبرني صديق لي أن متطرفي "داعش" اتخذوا من منزلي مقرا لهم وكانوا ينامون ويتناولون الطعام فيه"، وساعدت منظمة أوكسفام طيبة في تصليح الصالون، ومنحت المنظمة 2000 دولار لـ12 من أصحاب المحلات المتضررة لتصليحها.

وكشفت طيبة أنها لم تعد تشعر بالأمان وأنها تريد العودة إلى بغداد، وحين جاء والداها للزيارة كانوا ينوون البقاء لبضعة أيام ولكن بعد ليلة حظر التجول حزموا حقائبهم وعادوا إلى بغداد صباح اليوم التالي، وتقول طيبة: "بغداد لا تخلو من المتاعب تمامًا، ولكن سأكون مع والدي وسأشعر بالأمن بشكل أكبر"، وأعربت طيبة عن قلقها بشأن تعليم أطفالها بعد أن أصبحت المدارس مكتظة، وبينت أنها تعطي أطفالها البيض والخبز للإفطار في المدرسة وتقبلهم وتحاول عدم التفكير في الجدار الذي دمره الرصاص الذين يضطرون للسير بجانبه للوصول إلى المدرسة، ولكن بالنسبة إلى زوجها عاصم جولاء هي وطنه ويرغب في البقاء فيها.

وتقع جولاء في مفترق طرق حيث تلتقي مع العراق وكردستان العراقية وإيران، وكانت المدينة ذات أهمية إستراتيجية لحاكم العراق السابق صدام حسين والذي نفذ حملة تطهير على المدينة عام 1988 وطرد سكانها الأكراد واستعاض عنهم بعرب من الجنوب، وبعد اعتقال صدام حسين عام 2003 استغل الأكراد فرصتهم في العودة.

ويتذكر يعقوب يوسف رئيس بلدية جولاء سنوات الصراع، مشيرًا إلى التوترات تحت قيادة نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي في الفترة من 2006 حتى 2014، حيث فضّل المالكي الشيعة التي تعرضت إلى القمع طويلًا في العراق واستبعد السنة من أي دور مؤثر في الحكومة، وشعر السنة أنهم أمام خيار إما للتعاون مع الشيعة الذين يقودون بغداد أو التعاون مع الجماعات المسلحة التي تقودها "داعش".

وذكر المتحدث باسم قوات الأمن: "كان هناك عائلة سنية كبيرة جدًا في جولاء ونصفهم يعملون مع "داعش"، وكانوا خلية نائمة، ودعمت "داعش" أيضًا أعضاء سابقين في حزب "البعث" وكثير منهم اعتنق الإسلام الراديكالي في السجون الأميركية، ولدينا أسماء ووثائق للناس الذين وظفتهم حكومة "البعث" وانتقلوا إلى أماكن مثل بعقوبة واندمجوا في المجتمع". 

وذكر يعقوب يوسف بشأن التخطيط لإعادة المواطنين إلى المدينة بعد تحريرها: "رأينا ما حدث في قرية السعيدية التي تحررت في سبتمبر/ أيلول 2015 وأصيب الناس بالفزع وتركوها مرة أخرى، وما قمنا به هو نقل الناس تدريجيًا، وكانت أول منطقة أعدنا تعميرها هي مركز المدينة لأنها كانت الطريقة الأسرع لإحياء السوق، ولا تزال منطقة الوحدة غير مأهولة لأن لديها القليل من إمدادات الكهرباء والماء".

وتتقاسم مها نبيل حسن (طبيبة أسنان 26 عامًا) المنزل مع والديها وستة من الأشقاء، ونشأت مها في بلدة تقع بالقرب من الحدود الإيرانية، وفي عام 2005 أجبرا الأكراد عائلتها السنية على الانتقال إلى جولاء، لكنها ليست سعيدة لأن الناس أغلقوا عقولهم وأصبحوا تقليديين للغاية، وتتحدث مها عن الضغوط التي تواجهها لارتدائها الحجاب أثناء العمل قائلة: "إذا كان لدى مريض ذكر يجب أن أخذ معي أخي إلى العيادة معي لأنني لا أريد أن أكون بمفردي وأخشى من الهجوم البدني أو اللفظي".

وعندما عادت العائلة من المنفي في يونيو/ حزيزان وجدوا منزلهم أصبح كومة من الغبار والدخان، وأضافت والدة مها: "كان لدينا العديد من صور الأطفال والذكريات لكننا فقدناها جميعا"، واضطرت العائلة إلى استئجار مكان للإقامة لحين إعادة بناء منزلهم القديم بتكلفة 4 آلاف دولار، وتعد مها ووالدها المعيلين الرئيسيين للأسرة، وتربح مها 700 دولار من عملها في المستشفى ونحو 100 دولار من العمل في العيادة الخاصة، بينما تبلغ تكلفة الإيجار 200 دولار شهريًا.

وتظل آمال المدينة عالقة على النمو، إلا أن العائدين هم ضحايا الظروف لأن الكردستانيين يسيطرون على جولاء الآن، فيما تعترف الحكومة العراقية بالمسؤوليات الأساسية فقط، حيث تلقى المجموعة الأولى من العائدون ما يتراوح من 100-200 دولار كحوافز، وتعاني الحكومة الكردية ذاتها من أزمة اقتصادية.

وتضيف داليا أحمد (26 عامًا) التي تعمل لدى أوكسفام في جولاء: "المعلمون لا يتقاضون رواتبهم، وبالتالي كيف سيساعدون المدينة المحطمة"، وأشارت ماجدة عبدالرحمن أحد سكان جولاء السابقين إلى أنها كانت محظورة من التواجد في المدينة بسبب اتهام نجلها جمال (34 عامًا) بكونه مخبرًا لـ"داعش"، وتم حظرها باعتبارها عدو للسلام، لكنها تصر على أنه لم يكن جاسوسًا، مضيفة: "كان هناك جار آخر ابنه هو الجاسوس وكان لديه دراجة يرشد بها "داعش" إلى المنازل"، وحاول جمال أن يشكو إلى قوات الأمن لكنهم أخبروه أن يستكمل المستندات وأنهم سيراجعون الأمر، لكنه سئم الأمر وسافر إلى مصر متخذًا طريقه إلى أوروبا الشهر الماضي مع زوجته وأطفاله الثلاثة.

وذكر يوسف رئيس البلدية بشأن التحدي الأكبر الذي يواجهه: "إنه الصراع بين الشيعة والأكراد والسنة، وكذلك التعمير والكهرباء والماء، وهذه أمور يمكن حلها لكن الصراع يحتاج إلى وقت للشفاء"، ويشير يوسف وهو متزوج ولديه 7 أطفال إلى أنه لديه مشاكله الخاصة حيث تعرض منزله إلى الهدم، فضلًا عن فقدانه عصى المشي التي تعود إلى جده "مختار" وهو رجل دين وزعيم محلي، وقال عن زوجته: "إنها تفتقد صور حفلة زفافهم، وهناك حكمة عراقية قديمة تقول: "عندما تشعر بالضيق انظر إلى صور زفافك".

وتدخل معركة الموصل شهرها الثالث وما سيحدث بعد تراجع "داعش" سيكون مهمًا مثل المعركة نفسها، وربما تترك عملية التحرير مليون شخص بلا مأوى، ويصبح السؤال كيف سيشبه الأمر عندما يعودو إلى مدينة محطمة، ولا زال المستقبل غير مؤكد في جولاء، وحذرت الحكومة العراقية الأكراد من أنه يجب عليهم أن يغادروا الأراضي بعد هزيمة "داعش" ، وبالتالي لا تعد هذه هي نهاية القصة بالنسبة إلى العديد من العائلات.