القاهرة - مصر اليوم
شهدت محطة قطارات مصر، يومًا داميًا لم يخلو من تباين المشاعر والتصرفات، مابين شهامة منقطعة النظير، أو مبالاة بلا حدود، فلم تمنع الأشلاء المتناثرة أو النيران التي تكوي أجساد الضحايا وصرخاتهم ورائحة احتراقهم البعض من التقاط السيلفي، وكذلك أيضًا لم تمنع النبلاء من إنقاذ المستغيثين الراجين النجاة.
لم يستغرق الشاب الثلاثيني وليد مُرضي كثيرًا من الوقت - كحال باقي الموجودين على رصيف المحطة- في استيعاب حجم الكارثة، اندفع صوب مكان اندلاع الحريق بثبات وشجاعة يُحسد عليهما، لم يخطر على باله التفكير في النجاة بحياته أو الهرب بعيدًا عن النيران الملتهبة التي أتت على القطار ومن حوله من المواطنين، متسلحًا بـ«جركن مياه وبطانية»، اختار «بطل محطة مصر» أن يكون مُنقِذ الضحايا المنشود.
لحظات خالدة زادت على الدقيقة وثقها فيديو كاميرا مراقبة المحطة، حتما سيظل يذكرها العامل البسيط بكل فخرٍ وعِزة حتى يلقى وجه ربه، بعدما أسرع ليُطفئ جسد المصاب تلو الآخر تارة بالمياه وأخرى بالبطانية، غير مكترث بما قد يصيبه أو احتمالية إمساك النيران بملابسه وتعرضه هو الآخر لخطر الموت حرقًا، فما كان من أحد المصابين الذي كان عم وليد سببًا في إنقاذه، إلا أن احتضنه بقوة من ظهره أثناء انهماكه في سكب المياه على رأس مصاب آخر: «بسببك هيطلع عليا شمس يوم جديد».
اقر ايضا : وصول 3 سيارات إسعاف لمشرحة زينهم تقل 9 جثامين من ضحايا حادث "محطة مصر"
غير بعيد عن بطولة وليد مُرضي وعلى بُعد خطوات قلائل.. رُعب يخيم على وجه الطفلة راوية ابنة السنوات الست بعد إصابتها في الانفجار الدامي.. وجوم صاحبه بكاء فصراخ مدوٍ انفطر معه قلوب المصريين: «عايزة تيتة».. تلك الجدة التي كانت تنتظر القطار للعودة بصحبة حفيدتها إلى بلدتهم بمحافظة الشرقية، فاختار لهم القدر مصيرًا مغايرًا، ومع استمرار الحاجة سامية محمود عليوة في عداد المفقودين من جراء حادث الانفجار، يزيد ألم فراق الأحِبَّة من أوجاع الطفلة الصغيرة وجروحها التي فتكت بجسدها النحيل.
على قضبان السكة الحديد وأمام الجرار المنكوب، يقف الشاب العشريني ياسر.م غير آبه لجلالة الموت ممسكًا بهاتفه المحمول، يرفعه ملتقطًا «صورة سيلفي» بالكاميرا لوجهه مرتسمًا أعلاه ابتسامة صادمة، ويبرز خلفه ركام وبقايا الجرار الذي أودى – قبل دقائق فقط - بحياة العشرات من المواطنين في مشهد دامٍ.
الصورة – التي التقطها مصور صحفي أثناء تغطية الحادث - أثارت غضبًا وحنقًا شديدين، منتشرةً كالنار في الهشيم على صفحات المواطنين و«جروبات» مواقع التواصل الاجتماعي، حيث استنكروا في تعليقاتهم ما آل إليه حال الكثيرين من تَبلُد المشاعر وقسوة القلوب التي وصلت لحد عدم احترام حرمة الموتى، وما كان جواب بطل الصورة إلا أن قال: «كنت بطمن أبويا عليا بصورة عشان يعرف اني بخير.. مكنش قصدي!».
على النقيض من موقف «صاحب الصورة السيلفي» الصادم، ضرب المصريون أروع الأمثلة في الشهامة والتسابق لنجدة أشقائهم ضحايا الحادث الأليم، فتبارى الآلاف منهم في التوافد على المستشفيات التي نُقِل إليها مصابي الحريق، بعد أن أعلنت وزارة الصحة عن حاجة مستشفيات دار الشفاء والدمرداش وقصر العيني ومعهد ناصر وغيرها، إلى نقل الدماء لسرعة إسعاف وإنقاذ أرواح المصابين، فتحولت منصات "فيس بوك" لمنابر لحشد المتبرعين بدمائهم، بينما انهمك آخرون في كتابة "بوستات" تشرح كيفية الوصول لتلك المستشفيات عبر وسائل المواصلات المختلفة.
المصريون كذلك لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام «آلام أسر المفقودين»، عشرات لم يعرفوا مصائر أقاربهم الذين كانوا يتواجدون في ذلك التوقيت على رصيف محطة مصر، فتسارع الناشطون على صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بنشر صور المفقودين في كافة الصفحات و"الجروبات" الشهيرة، علهم يستطيعون أن يطفئوا النار الموقدة داخل قلوب ذويهم، التي لا تفتأ تتذكر مشاهد صور الجثث المتفحمة.
ذلك المُصاب الجلل الذي أرق مضاجع المصريين وأدمى قلوبهم، كان وراءه إهمال جسيم ارتكبه علاء فتحي سائق الجرار رقم 2310 المتسبب في الانفجار والحريق الهائل، وبأعينٍ شاخصةٍ وثباتٍ انفعاليٍ شديد أطل علينا المتهم الرئيسي في الحادث بصحبة الإعلامي وائل الإبراشي في لقاء خاص من داخل مقر احتجاز السائق الذي أُلقي القبض عليه بعد الحادث بساعات.
طوال ما يزيد على 40 دقيقة ظل خلالها الإعلامي الشهير يحاور السائق المتهم لمعرفة خبايا الحادث وملابساته، ظهر علاء فتحي ببرودة أعصاب وصلت لحد استفزاز مشاعر المشاهدين الذي التفوا حول الشاشات الصغيرة والحواسب الذكية، فالسائق ألقى باللوم الأكبر على منظومة هيئة السكة الحديد قائلا: "الجرار مكنش ينفع يطلع وكان محتاج صيانة.. شوفوا كل الجرارات إذا كان ينفع تشتغل أو لا هاتوا لجنة فنية تشوف وتحكم.. هتلاقوها لا تصلح للاستخدام الآدمي وبنقول كتير بس محدش من المسئولين بيسمع.. أنا مخطئ بس متبقاش كلها عليا".
وخلال اللقاء، أقر السائق بأن الجرار الذي كان يقوده اصطدم بآخر، فتركه وترجَّل مشتبكًا مع سائقه، إلى أن فوجئ بتحرك جراره ولم يسعفه الوقت للحاق به وركوبه مرة أخرى، واندفع بعدها الجرار بسرعة كبيرة حتى وصل لنهاية الرصيف مصطدما به وأحدث الانفجار والحريق الذي أودى بحياة 20 مواطنًا علاوة على إصابة 28 آخرين، واختتم حديثه موجها رسالة للمصريين: "أنا آسف.. كان فيه خطأ بس غير مقصود.. آسف لأسر الضحايا ومستعد لأي حاجة".
يبقى الضحايا مصريين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية.. أغلبهم البسطاء الذين كانت «محطة مصر» مقصدهم للسفر إلى قراهم الفقيرة للتنعم بدفء الأسرة التي كانت دائما وأبدا خير مُعينٍ لهم على المواصلة قبل العودة أدراجهم مرة أخرى لـ«قاهرة المعز».. آخرون كتب لهم القدر أن يمضوا لحظات عمرهم الأخيرة على «رصيف الموت».. فذاك شاب يمسك هاتفه منهمكًا في تصفحه.. وتلك سيدة تحمل حقائبها متجهة لسلم عبور المشاة قاصدة الرحيل.. وغيرهم حضروا للمحطة ليشتروا تذاكر سفر اعتادوه مرارًا وتكرارًا.. لم يكن يدر بخلدهم أنهم في صباح الأربعاء الموافق السابع والعشرين من فبراير 2019 قد ابتاعوا بالفعل تذاكر سفرهم في رحلة «اللاعودة»..
قديهمك ايضا : قصة أبشع لحظات موتٍ عاشها مصريُّون في حادث "قطار المحطة"