القاهرة _ أ ش أ
تثير ممارسات إيران التي تعبر عن نزعة واضحة نحو "ثقافة الهيمنة الإقليمية" غضب الكثير من المثقفين العرب بقدر ما أفضت تلك الممارسات لاستياء عارم ورفض واضح في الشارع العربي.
وكان مجلس جامعة الدول العربية قد دعا في ختام أعمال دورته الـ 145 مؤخرا إيران للكف عن السياسات التي من شأنها تغذية النزاعات الطائفية والمذهبية ووقف دعم وتمويل الجماعات والأحزاب المسلحة في الدول العربية، مؤكدا على أن التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية تتنافى مع مبدأ حسن الجوار.
ومن الواضح لكل ذي عينين أن إيران بممارساتها التدخلية في شؤون العالم العربي وخاصة عبر القوس الممتد من اليمن إلى لبنان إنما تلعب أيضا دورا في تشويه مفاهيم المقاومة عبر توظيف جماعات ترفع الشعارات المقاومة وهي في الواقع مجرد "أدوات وطواقم" في المخطط الإيراني الذي يستهدف الأمن القومي للأمة العربية وهويتها.
فتنظيم مثل "حزب الله" اللبناني لم يعد في أذهان الكثيرين كيان مقاوم بعد أن أسفر عن وجهه الحقيقي كآداة طائفية تستخدمها إيران ضمن أيديولوجية الهيمنة الفارسية الجديدة لرفع مستوى الاحتقانات الطائفية والمذهبية في العالم العربي وتحويلها لصراع لا يمكن أن يخدم في نهاية المطاف سوى أعداء الأمة العربية.
ولئن قيل إن قوى خارجية معادية للعرب والإيرانيين معا هي التي تسعى لتأجيج الصراع بينهما وإشعال حرب مذهبية مدمرة في المنطقة وخاصة في الخليج فإن السؤال الواجب في المقابل أمام من يردد مثل هذه المقولة: "ومن الذي يمنح تلك القوى الخارجية هذه الفرصة ويسهل لها تنفيذ مخططها إن لم يكن متواطئا في هذا المخطط الذي لم يعد سرا على القاصي والداني"؟!
وإن تحقق المخطط المشؤوم أو جزء منه في تقسيم بعض الدول العربية أو تغيير خرائطها فإن التاريخ سيتوقف طويلا أمام دور إيران في تلك المأساة العربية ومعاناة شعوب المنطقة التي تحولت كتل كبيرة منها إلى لاجئين بلا عنوان!
وكان الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف قد أشار مؤخرا إلى "بعض القوى الإقليمية والدولية التي تحاول إيجاد صراعات طائفية ومذهبية في الدول العربية والإسلامية لخدمة أعداء الأمة ومصالحها الضيقة".
ونوه معلقون في هذا السياق بأن الأزهر "حصن السنة والجماعة" مازال يشكل الدرع القوية التي تعزز المناعة الثقافية لمصر في مواجهة أي محاولات للتحريف أو الاختراق المذهبي بقدر جهوده المقدرة على مستوى التقريب بين المذاهب، فيما كان شيخ الأزهر الشريف قد أكد على ضرورة احترام حقوق المواطنة للسنة في إيران.
ويبدو المشهد الإيراني الراهن بتدخلاته في الخرائط والوقائع على الأرض العربية مجافيا لآمال حسن الجوار فضلا عن ثقافة التواصل بين حضارتين تجمعهما الكثير من الوشائج فيما كان المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري قد أعاد للأذهان أن "الفارسية الحديثة بلورها الفردوسي قرونا بعد الفتح الإسلامي لفارس ولا يذكر التاريخ أن العرب وقفوا ضدها".
وغني عن البيان أن العلاقات عميقة والوشائج متعددة بين الثقافتين العربية والفارسية والتجليات ظاهرة على مستوى اللغة والمفردات، كما أن رموزا ثقافية مثل عمر الخيام حاضرة بقوة في الثقافة العربية مثلما هي حاضرة في الثقافة الفارسية.
وبصرف النظر عن اتجاه العلاقات السياسية بين مصر وإيران صعودا أو هبوطا في حقب متعددة فإن التفاعل الثقافي لم يتوقف بين الجانبين، فيما كان عميد الأدب العربي طه حسين قد أفصح عن أنه كان يتمنى أن تكون أطروحته للدكتوراة عن الفيلسوف والشاعر عمر الخيام، كما أن أعمالا مثل شاهنامة الفردوسي وبستان سعدي وغزليات حافظ شيرازي حاضرة دوما على مائدة الثقافة المصرية.
وإذا كانت العديد من مؤلفات طه حسين وعباس محمود العقاد وعائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" قد ترجمت للفارسية فقد عمد أديب نوبل المصري نجيب محفوظ لاستخدام مفردات شعرية باللغة الفارسية في بعض إبداعاته الخالدة، فيما تغنت كوكب الشرق أم كلثوم برباعيات لعمر الخيام ترجمها الشاعر المصري الراحل احمد رامي من الفارسية للعربية.
ولكن الكثير من المثقفين العرب يشعرون الآن بمرارة حيال مواقف إيرانية حتى حيال تنظيم داعش الإرهابي معيدين للأذهان أنه رغم وجود قوات من الحرس الثوري الإيراني في العراق بذريعة محاربة داعش فإنها لم تحرك ساكنا للدفاع عن آثار العراق وإنقاذ كنوزه التاريخية التي نال منها هذا التنظيم الظلامي الإرهابي.
والرأي عند معارضة إيرانية كبيرة هي مريم رجوي أنه سيكون من الوهم أن نطلب إخماد الحريق ممن أشعله والرأي عندها أيضا أن النظام الإيراني يعظم مكاسبه الإقليمية ويبرر تدخلاته الفظة في بلدان عربية بذريعة محاربة تنظيم داعش.
ولئن كانت الممارسات الإيرانية الراهنة حيال الأمة العربية لا تصب في مربع التفاعل الإيجابي بين الثقافتين الإيرانية والعربية فإن الصور التي تبثها آلة الدعاية الإيرانية وهي توحي بالقوة العسكرية للنظام الحاكم في طهران حول مدن الصواريخ في أعماق الجبال وتحت الأرض وصواريخ الفضاء والغواصات وتجارب الصواريخ الباليستية البعيدة المدى لن تخفي ملامح أزمة حقيقية داخل المجتمع الإيراني وخاصة أجياله الشابة التي تتوق للحرية فيما يستمر النظام في فرض الحصار على شعبه، وهو ما يفسره بعض المحللين بخشيته من السقوط حال السماح بانفتاح حقيقي على العالم.
وفيما تتنافس الفضائيات الأجنبية الموجهة باللغة العربية في "حروب القوى الناعمة للفوز بالقلوب والعقول في المنطقة ومحيطها وبما يخدم أجندات هذه الدول فان دراسة للباحثة داليا عثمان حول المعالجة الإخبارية للقضايا السياسية العربية في القنوات الموجهة باللغة العربية شملت فضائيات "الحرة" الأمريكية و"العالم" بقيمة الحيادية فضلا عن ارتفاع نسبة فئة ما تسميه "الخبر السلبي" والافتقار للتوازن ضمن مادتها الخبرية.
وفيما بات التغير السلبي في المزاج العربي حيال إيران محسوسا حتى على مستوى الشارع جراء التدخلات الإيرانية الفظة في الشؤون الداخلية لعدة دول عربية ترى المحللة المصرية وأستاذة العلوم السياسية نورهان الشيخ إن طهران "تمتلك مشروعا سياسيا مذهبيا".
وإذا كان بعض الكتاب في مصر قد نوهوا في سياق الجدل الحالي بأهمية قراءة التجربة الإيرانية بشكل نقدي فإن هذه القراءة تبدو مطلوبة بالفعل خاصة وأن القراءات الغربية للتجربة الإيرانية غزيرة ومستمرة ومتجددة كما يتجلى في كتاب صدر بالانجليزية بعنوان: "إيران الثورية: تاريخ الجمهورية الإسلامية".
وفي هذا الكتاب سعى المؤلف مايكل اكسورثي لاستكشاف جديد للتطورات في إيران منذ ثورة 1979 والتي أفضت لما يسميه "ديمقراطية زائفة".
فالنظام السياسي في إيران متوتر وقضية الديمقراطية لم تجد حلا كما يقول المؤرخ البريطاني والدبلوماسي السابق مايكل اكسورثي الذي ذهب في كتابه إلى أنه منذ عام 2009 قررت الحلقة العليا للنظام التخلي عن سياسة الزعيم الراحل الخميني فيما يتعلق بالتوازن بين الفرقاء والأجنحة المتعددة والاتجاه بدلا من ذلك لأسلوب القوة الغاشمة ضد المعارضين وهو توجه يضعف في الواقع الدولة الإيرانية ولا يمنحها القوة.
وقد تكون الثقافة هي الساحة الأكثر خطورة وتعقيدا في المشهد الإيراني الراهن جراء الافتقار للحريات بالمعايير المتعارف عليها عالميا، بينما تعبر القيادة الإيرانية وخاصة رأس هذه القيادة السيد علي الخامنئي عن شعور حاد بوجود مخطط غربي لاختراق إيران عبر "وسائل وأدوات القوة الناعمة تمهيدا للإطاحة بالنظام الحاكم".
وكانت مجلة (نيويوركر) الأمريكية قد أكدت على عداء الملالي الذين وصلوا لحكم إيران عام 1979 لكل ما يتصل بالحداثة التي ترتبط في أذهانهم بالغرب وسط مخاوف ظاهرة في دوائر القيادة الإيرانية من المؤثرات الثقافية الغربية على الشباب.
والسيد علي الخامنئي "المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية" الذي ألمح مؤخرا لإمكانية تخليه عن موقعه القيادي في قمة هرم السلطة بإيران لم يتورع من قبل عن التدخل حتى في تحديد "أجندة الشعر والشعراء" في بلاده.
وبينما توضح المجلة أن الشعر كان في قلب السياسة بإيران على مدى قرون كان الخامنئي قد بدا بالتحدي الذي تشكله ثورة الاتصالات ووسائط الاتصال الجديدة لتصوره عن "الشعر الملتزم"، مشيرا لاتجاه بعض الشباب لما وصفه "الثقافة المنفلتة" فيما أطلق تهديدات "لتلك الفئة الضالة".
وفيما يقال إن الخامنئي ذاته شاعر وله قصائد يظهرها للمقربين منه فقد يكون من الصعوبة بمكان أن يقدم شاعر حقيقي على تحديد المواضيع التي ينبغي أن يبدع فيها الشعراء أو يضع لهم "أجندة" أو "خارطة طريق" بدعوى تطوير الشعر أو حتى "استخدام الشعر كسلاح في حرب الحق ضد الباطل وخدمة أهداف الثورة" على حد قول السيد علي الخامنئي في لقائه منذ فترة ليست بالبعيدة مع شعراء إيرانيين.
وفي ظل هذا التصور الذي يتصادم مع جوهر الشعر كفضاء حرية وسلطة خيال لن يكون من الغريب أو المستغرب أن يذهب علي الخامنئي إلى أن الشعراء الذين "لا يخدمون أهداف الثورة الإسلامية" ولا يكتبون عما يصفه "الموضوعات الحيوية" هم "مذنبون بجريمة وخيانة وليس لهم مكان في الجمهورية الإسلامية".
والشعر قوة حقيقية في الحياة والسياسة في إيران التي عرف شعبها تاريخيا بحب الشعر لحد الولع حتى أنه لا يكاد يخلو بيت في إيران من ديوان للشعر غير أن المرحلة التي بدأت منذ عام 1979 مع "نظام الخميني" تعد الأسوأ في تاريخ الشعر والشعراء الإيرانيين الذين لم يتورع هذا النظام عن إعدام بعضهم وسجن البعض الآخر على نحو يعيد للأذهان محنة الشعراء الروس في مرحلة حكم ستالين للاتحاد السوفييتي السابق.
ومن الشعراء الإيرانيين الذين أعدموا في ظل نظام الخميني والخامنئي سعيد سلطان وحيدر مهريفان وهشام شعباني فيما اتجه عدد من كبار الشعراء الإيرانيين للحياة في المنفى مثل محمد جلالي وهوشانج ابتهاج ومانوشهر يكتاي وهادي خورسندي وإسماعيل خوي.
وعن إيران الوطن والنظام والذكريات والأسرار والحنين والثقافة جاءت "تحديقة الغزالة" التى صدرت بالإنجليزية في العاصمة البريطانية لندن بقلم الروائي والطبيب والناشر الإيرانى أراش حجازي والذي يقول إنه استوحى العنوان من نظرة ندى سلطان "شهيدة الثورة الخضراء" التي اندلعت احتجاجا على التلاعب في نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009.
ويتناول حجازي في هذه المذكرات قصة الثورة الإيرانية والمشهد في بلاده من الداخل فيما يصف جيله "الجيل المحروق" جراء القمع وحملات الاعتقالات والقيود المتعددة ومن بينها العزلة القسرية عن العالم الخارجي معتبرا أن هذا الجيل قد حرقت أحلامه وأمانيه غير أنه سيبقى محبا للوطن.
ويستدعى المؤلف بعض الوقائع الدالة حول "القهر الثقافي" مثل إرغام الطلاب فى المدارس على قراءة كتب بعينها في المكتبات وإعدام أى كتاب يعتبره نظام الحكم مخالفا لمبادئ الثورة أو الأخلاق من وجهة نظر هذا النظام، الأمر الذي دفع المواطنين الإيرانيين ومنهم عائلته للجوء لما يسميه أراش حجازي "الثقافة البديلة".
والمحسوبية تزدهر فى ظل الاستبداد وانعدام الشفافية كما يشير اراش حجازي ولكن السؤال الهام حقا الذى يثيره هذا الكتاب: هل كتب على إيران بكل حضارتها العريقة أن تحكم إما بحكم إمبراطورى متجبر أو بنظام جاء بعد ثورة شعبية ليجافي الديمقراطية وينتهك حقوق الإنسان بفظاظة مكتفيا بشعارات دينية يستخدمها حتى في مخططه للهيمنة الإقليمية؟!
ومع شفرات الأحداث وخوابي الأسئلة يتواصل رنين نواقيس الخطر منبها لأهمية الاصطفاف العربي لحماية الهوية والقيم العربية في وضع إقليمي ضاغط ومشاريع لقوى إقليمية غير عربية بدت وكأنها تسعى لإعادة إنتاج زمن مضى منذ قرون وقرون عندما كانت القبائل العربية موزعة بين كسرى الفرس وهرقل الروم!