توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

"وقائع مدينة ترافنك" لإيفو أندريتش: خيال روائي على جثة الإمبراطورية

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - وقائع مدينة ترافنك لإيفو أندريتش: خيال روائي على جثة الإمبراطورية

بيروت ـ وكالات

«أفتراك لم تفكر أبداً بأن هذه الشعوب الخاضعة للهيمنة التركية، والتي تحمل أسماء مختلفة وتمارس شعائر دينية متنوعة (...) يتوجب عليها أن توجد يوماً قاعدة مشتركة لوجودها، وصيغة لهذا الوجود تكون أكثر فساحة وأكثر عقلانية وإنسانية؟». هذا السؤال تطرحه واحدة من شخصيات رواية «وقائع مدينة ترافنك» على شخصية أخرى ذات لحظة من لحظات أحداث الرواية. وهو يكاد يختصر، بكل بساطة عالم هذه الرواية الساحر، ومناخها الذي لم تفت بعضَ الباحثين مقارنتُه بالأجواء التي عرف ليو تولستوي كيف يرسمها في روايته الكبرى «الحرب والسلام». وحتى إذا كان من الصعب النظر إلى مؤلف «وقائع مدينة ترافنك» على أن له قامة أدبية تطاول قامة تولستوي، فإن من السهل المقارنة بين روايتيهما هاتين من منطلق اشتراكهما في الحيز الزمني الذي تعبّران عنه (أيام الحملات النابوليونية) ولكن أيضاً من منطلق تعبيرهما معاً عن قيم إنسانية شديدة المعاصرة للزمن الذي عاشا فيه، بقدر ما هي معاصرة للزمن الذي يرصدان أحداثه في كل من الروايتين. وهكذا، لئن كان من المنطقي القول إن «الحرب والسلام» تعود إلى حقبة الحملة النابوليونية على روسيا، لتصوير روحية نهاية القرن التاسع عشر، فإن من المنطقي أيضاً القول إن «وقائع مدينة ترافنك» تعود بدورها إلى الحقبة النابوليونية لتعبر عن الزمن الذي كتبت فيه: أواسط القرن العشرين. بل أكثر من هذا: النصف الثاني من القرن العشرين، حين راحت تظهر من جديد تلك العصبيات القومية والدينية الحالّة محل حقب من العقلانية (المصطنعة كما قد يقول البعض الآن). ويمكننا حتى أن نقول إن «وقائع مدينة ترافنك» في رسمها لتلك العصبيات والتناقضات إنما كانت تصف جذور «المسألة الشرقية» برمتها، بدءاً من ظهورها مع بدء ظهور معالم الوهن في الإمبراطورية العثمانية وحتى يومنا هذا -للأسف-. ولعله من الأمور اللافتة أن نجد في بعض مواقف وحوارات «وقائع مدينة ترافنك» ما يذكرنا بصور عن ضروب التنافس الاستعماري الغربي على منطقتنا العربية صوّرها كتاب مثل جيرار دي نرفال على حقيقتها، وعلى ألسنة لاعبيها في كتب مثل «رحلة إلى الشرق». إذ هنا حسْبُنا أن نقرأ حواراً بين دي نرفال وشخص إنكليزي غامض، دار في مطعم في بيروت العتيقة لنشعر كما لو أننا دخلنا رواية «وقائع مدينة ترافنك» ومنطقة البلقان بأسرها، ذلك أن مدينة ترافنك تقع في البلقان وتحديداً في البوسنة، أما وقائع المدينة التي تصفها الرواية فتحدث أوائل القرن التاسع عشر أيام الحكم العثماني والحملة النابوليونية. > مؤلف «وقائع مدينة ترافنك» هو الكاتب البوسني/ اليوغوسلافي إيفو أندريتش، الذي حققت أعماله شهرة كبيرة وترجمت إلى العديد من اللغات بعد نيله جائزة نوبل للآداب في العام 1961. ولقد عرف أندريتش على نطاق واسع من القراء العرب يومها، وبخاصة بعدما ترجم العديد من رواياته الكبرى إلى لغة الضاد، ومن بينها «جسر على نهر ألدرينا» وبخاصة «وقائع مدينة ترافنك» التي دهش القراء العرب لفرط ما عثروا فيها على أجواء شرقية وأبعاد تكاد تنتمي مباشرة الى شؤون المشرق العربي وشجونه. > كتب ايفو أندريتش روايته الكبرى هذه خلال الحرب العالمية الثانية، في زمن كان يعيش فيه في شبه عزلة وسط بلغراد التي كان الاحتلال الألماني النازي قطعها عن العالم... لكن الرواية لم تنشر إلا في العام 1945، أي بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، في الوقت نفسه الذي نشرت فيه روايتان كبيرتان أخريان له، هما «جسر على نهر ألدرينا» و «الآنسة». غير أن مشروع «وقائع مدينة ترافنك» لم يولد خلال الحرب، بل قبل ذلك، إذ إن الكاتب كان طوال السنوات السابقة لاندلاع الحرب الهتلرية، عاش متنقلاً بين باريس وفيينا، وغيرهما من المدن أحياناً، ليجمع من الوثائق ما يمكّنه من أن يعطي الأحداث التاريخية التي يريد وصفها، أبعادها الواقعية. ذلك أن الرواية بقدر ما تتحدث عن مدينة ترافنك أوائل القرن التاسع عشر، تستخدم للحديث عنها، مسار شخصين عاشا فيها في الوقت نفسه: القنصل الفرنسي وزميله النمسوي. وفي ذلك الحين كانت فرنسا والنمسا القوتين الكبيرتين في أوروبا. وكانت كل منهما، على طريقتها، تسعى إلى وراثة الأمبراطورية العثمانية في جزء من «ممتلكاتها»، خصوصاً أن نابوليون كان يعيش في ذلك الحين ذروة مجده، ويخوض على المستوى الأوروبي كله حروباً طاحنة. > وسط تلك المناخات، إذاً، تدور أحداث «وقائع مدينة ترافنك». والأحداث تبدأ يوم الإعلان عن وصول قنصل فرنسا الجديد دافيل، الى مدينة ترافنك، حيث سيعيش الرجل ويقوم بمهماته الديبلوماسية وسط سكان مقسومين في ما بينهم تماماً ويعيشون حالة عداء ممزوجة بالترقب، تجاه بعضهم البعض (هل يذكرنا هذا بأمر ما مثلا؟): في ترافنك كانت تعيش طوائف وقوميات وأديان شتى. ومن بين هؤلاء جميعاً كان أبناء الطائفة اليهودية الوحيدين الذين يتمنون انتصار نابوليون. الكاثوليك يحبون فرنسا بالطبع، لكنهم يكرهون نابوليون لأنه «كافر» وعدو البابا. أما الأورثوذكس فيتوجهون بآمالهم صوب روسيا وقيصرها، بينما المسلمون الذين يعيشون في المدينة مهيمنين مميّزين فإنهم ملتحمون بالآستانة، ومرتاحون إلى أوضاعهم، يتطلعون إلى الانقسامات الأوروبية على أنها الفرصة الذهب التي ستمكن تركيا من أن تستعيد أحلامها بالسيطرة على العالم مجدداً. كانت تلك هي الذهنيات التي وجدها دافيل مهيمنة في المدينة التي وصل إليها بأفكاره التنويرية وولائه لنابوليون وحديثه الدائم عن حرية الشعوب وتطورها. ولكن في مقابل دافيل الفرنسي، هناك أيضاً القنصل النمسوي فون ميتيرير، الذي يصل بعد دافيل بشهور قليلة ليمثل بلاده في المدينة، مجابهاً دافيل وأنصاره. وهكذا من خلال المجابهة بين الرجلين وما يمثله كل منهما، نعيش أحداث المدينة في يومياتها وترقبها. غير أن أندريتش، بصفته كاتباً كبيراً من كتاب القرن العشرين، حرص على أن يعطي شخصيتيه هاتين أبعاداً إنسانية تتجاوز متطلبات حضورهما السياسي والديبلوماسي. وينطبق هذا بخاصة على شخصية دافيل، فهو كما يصوره الكاتب في الرواية، رجل تنوير حقيقي، يعيش شكوكه وأحلامه الخاصة بشكل متأزم في بعض الأحيان حيث لا يعود في إمكان «أخلاقه الدبلوماسية» أن تدفعه إلى أي موضوعية مزيفة، ولكنه مع ذلك يحاول أن يفهم الناس ويقيم علاقات معهم، لا سيما مع أحمد بك الحاكم التركي الذي يعتبر إرساله إلى المدينة ليحكمها، عقاباً له، لا تكريماً. وهكذا، من خلال الصراع بين القنصلين، والحوارات بين الفرنسي والبك، ومن خلال وصف الحياة اليومية للسكان نعيش، نحن القراء وبخاصة إذا كنا ننتمي الى أوضاع تشبه أوضاع المدينة في تلك الحقبة، نعيش مناخات الترقب والخيبات والصراعات، ونفهم سر ما سيسميه أمين معلوف لاحقاً بـ»الهويات القاتلة». سنعيش وقائع مدينة سرعان ما يتحول ترقّبها كابوساً ويومياتها جحيماً مغلقاً، يصل حتى برجل التنوير الفرنسي دافيل (وهو مبني على قنصل حقيقي يدعى بيار دافيد، كما ان القنصل النمسوي ميتيرير مستقى من قنصل حقيقي هو ميتيسير) الى خيانة نفسه في نهاية الأمر، حين يرسل برقية إلى وزارته في باريس يعلن فيها ولاءه بعد سقوط نابوليون... فيما المدينة تواصل آلامها وتمزقاتها الداخلية. > كان ايفو أندريتش (1892 - 1975) الاسم الكبير بين الكتاب اليوغوسلافيين في القرن العشرين، وهو بدأ حياته متحمسا للبوسنة ومدينة ترافنك مسقط رأسه فيها، ثم بعد توحيد يوغوسلافيا صار شديد الحماسة للوحدة اليوغوسلافية التي رحل عن عالمنا من دون أن يدري أنها سوف تنتهي بعد سنوات قليلة من رحيله. وأندريتش كان كاتباً وديبلوماسياً، وهو -كما أشرنا- نال جائزة نوبل للآداب في العام 1961، وترجمت رواياته إلى عشرات اللغات. وكانت «وقائع مدينة ترافنك» أشهرَها، إلى جانب «جسر على نهر ألدرينا»، «طريق عليا جزرلش» و «بلاط ملعون» و «القلق»، إضافة الى مجموعات شعرية عدة أصدرها خلال مراحل متفرقة من حياته.  

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وقائع مدينة ترافنك لإيفو أندريتش خيال روائي على جثة الإمبراطورية وقائع مدينة ترافنك لإيفو أندريتش خيال روائي على جثة الإمبراطورية



الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وقائع مدينة ترافنك لإيفو أندريتش خيال روائي على جثة الإمبراطورية وقائع مدينة ترافنك لإيفو أندريتش خيال روائي على جثة الإمبراطورية



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon