فتحت قصة مأساوية لطفل بلا مأوى عرف مؤخرا "بالراقص مع الكلاب" ملف "الأطفال بلا مأوى" أو ما يعرف بـ"أطفال الشوارع" وأبرزت الحاجة لثقافة جديدة من شأنها حل هذه الإشكالية بصورة إنسانية ومؤسسية تحول دون تكرار مآسي الأطفال.
وكانت القصة المأساوية للطفل عبد الرحمن أو "الطفل الراقص مع الكلاب في شوارع وسط القاهرة" والتي حظت باهتمام واسع من الصحف ووسائل الإعلام قد انتهت نهاية سعيدة بعد أن وجد قلبا رحيما تكفل بنفقات حياة جديدة وآمنة له هو وشقيقه الذي كان يعاني مثله.
وإذا كان هذا الطفل الذي عرف "بالراقص مع الكلب" بسبب صداقته الوثيقة مع عدة كلاب ترافقه في رحلة معاناته اليومية فيما يتمتع بموهبة فطرية في فن الرسم قد أوجع القلوب جراء معاناته وافتقاره لبيت يأويه فإن هذه القصة قد تتكرر مع العديد من الأطفال الذين ينبغي حمايتهم وعدم السماح بطعن براءتهم في مقتل.
وبعد أن ذاعت قصة "الطفل الراقص مع الكلاب" نقلت وسائل إعلام عن مصادر في المجلس القومي للأمومة والطفولة تصريحات توحي باهتمام المجلس "بملف الأطفال بلا مأوى" وهو ملف ينبغي ان تتضافر جهود المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في صيغة تكاملية وصولا الى الحل الأمثل لإشكالياته.
وواقع الحال انه سواء على مستوى الحكومة او الجماعة الثقافية المصرية يتصاعد الادراك بخطورة ومأساوية ظاهرة "الأطفال بلا مأوى" او "أطفال الشوارع" وضرورة التوصل الى حل مؤسسي لهذه الظاهرة المؤسفة في اطار "ثقافة التراحم والتكافل" التي عرف بها المجتمع المصري.
وكان برنامج الحكومة الذي عرضه رئيس الوزراء شريف اسماعيل على مجلس النواب قد اكد على اعتزامه علاج "ظاهرة الأطفال بلا مأوى" وتطوير شبكات الأمان الاجتماعي ومد مظلة الحماية للفئات الفقيرة والضعيفة في سياق السعي لتأسيس مجتمع العدالة الاجتماعية.
ويؤكد الدستور الذي أقره شعب مصر على التزام الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع اشكال العنف والاساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري كما يحظر كل صور العبودية والاسترقاق والقهر والاستغلال القسري للانسان.
وبعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة كان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد تحدث عن أهمية إقرار سياسات "تحمي أطفال الشوارع من برد الشتاء وسكن المقابر" وتساءل عن العدد الحقيقي لهؤلاء الأطفال فيما تقدر احصاءات للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عدد "اطفال الشوارع" في مصر بنحو 16 ألفا.
ولئن كان الرقم النهائي لأطفال الشوارع لم يحدد بعد بصورة دقيقة فان الكاتب المسرحي بهيج اسماعيل يرى" أن عدد أطفال الشوارع في مصر لا يقل عن المليون وهو حسب وصفه "رقم كبير ومخيف" خاصة وان "هؤلاء الأطفال طاقة عدوانية جاهلة وقابلة للانفجار في أي اتجاه".
وفيما انعكست الظاهرة بقسوتها وتداعياتها في الصحف ووسائل الإعلام المصرية أبدى العديد من المثقفين شعورا بالجزع والأسى وتساءل البعض بحزن في تعليقات وطروحات شتى عن كيفية التخلي عن الأبناء وإجبارهم على الهروب إلى الشوارع بهذه القسوة.
ولفتت بعض الطروحات إلى إحصاءات للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تشير إلى العلاقة بين الفقر واستفحال ظاهرة أطفال الشوارع كمشكلة تحتاج إلى مواجهة سريعة.
وإذا كانت إشكالية الأطفال بلا مأوى تؤرق ضمير المجتمع فان ظاهرة "عمالة الأطفال" هي أيضا من الظواهر المثيرة للأسى فيما توضح إحصاءات للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن حجم عمالة الأطفال بلغ في العام 2013 ما يصل إلى نحو 1,6 مليون طفل وأن عدد ساعات العمل لهؤلاء الأطفال تتجاوز 9 ساعات يوميا في المتوسط.
وكان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد لاحظ انه مع حالة الانفلات الأمني في الشارع المصري عقب ثورة 25 يناير 2011 طفت على السطح قضية اطفال الشوارع الذين يجمعون الحجارة كل ليلة في مواجهات مع رجال الشرطة بلا اسباب..فلا هم ساسة ولاهم ثوار" معتبرا "انهم فقط ضحايا مجتمع لا يرحم".
وفي سياق تشخيصه لظاهرة اطفال الشوارع، أوضح جويدة ان "اعمارهم تتراوح ما بين 7 سنوات و15 سنة " مضيفا :"ابحثوا عن ثلاثة ملايين طفل ينامون في الشوارع ولا أحد يعرف عنهم شيئا..إنها قضية اجتماعية إنسانية قبل أن تكون قضية أمنية".
وأطفال الشوارع كما تشير دراسات للظاهرة من منظور ثقافي هي كتل تعاني من الاغتراب جراء الحرمان من ابسط معطيات الحياة الطبيعية والسوية وهؤلاء الأطفال يمثلون واحدة من أخطر وأقدم الأزمات الإنسانية والاجتماعية في الشارع المصري.
ولاحظ الكاتب والشاعر فاروق جويدة " إننا نتحدث عن ظاهرة اطفال الشوارع منذ سنوات ولم يسمع احدا" منوها بأنه في الدول المتقدمة تقام مؤسسات كاملة لايواء هؤلاء الأطفال وتعليمهم "حتى لا يتحولوا إلى ألغام في المجتمع"..
فمشكلة اطفال الشوارع التي تعبر عن خلل بنيوي عميق في المجتمع هي من التجسدات الصادمة لمرحلة سابقة امتدت لسنوات طويلة وتراكم فيها الفقر والمرض والجهل مع تدهور مريع على مستويات الرؤى والأداء والسياسات.
اين ذلك من نموذج يتجلي في كتاب صدر بالانجليزية بعنوان :"حروب الرصاص:سياسات العلم ومصير اطفال امريكا" وهو كتاب يكرسه المؤلفان جيرالد ماركوفيتز ودافيد روزنر لمشكلة تزايد معدلات الرصاص في دماء الأطفال الأمريكيين بالعائلات الفقيرة فيما اكدا على ان المشكلة بمخاطرها الصحية تدخل في صميم قضايا العدالة الاجتماعية وتستدعي خطة لمواجهتها تبلغ تكاليفها 33 مليار دولار وتشارك فيها منظمات المجتمع المدني الى جانب الحكومة ؟!.
وهل يمكن مع استمرار مشكلة اطفال الشوارع ان نتحدث بثقة عن المستقبل او تصدر كتب حول رهانات المستقبل على غرار ما يحدث في الغرب حيث تتوالى الكتب الدالة في هذا الاتجاه مثل الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان :"من يمتلك المستقبل؟" وفيه يناقش المؤلف جونار لانير دور الشركات الرقمية العملاقة في مستقبل الغرب؟!.
ومن هنا يحق القول بأن ملف "الأطفال بلا مأوى" هو في سياق أوسع نطاقا يتعلق بالضعف التكويني لنخبة الحكم السابقة خلال سنوات طويلة وتغافل عناصر تلك النخبة عن مواضع الاختلالات البنيوية العميقة وطرح الرؤى والتصورات لمواجهتها بصورة مؤسسية.
ويتساءل فاروق جويدة عن دور المجتمع المدني حيال هؤلاء الأطفال مضيفا:" أين الجمعيات الخيرية وأين مراكز البحوث التي ينبغي أن ترسل خبراءها وسط هؤلاء الأطفال " فيما تقول نيللي علي الباحثة في علوم الانثربولوجي بجامعة لندن والمتخصصة في دراسة اطفال الشوارع وذات الاهتمامات الثقافية العميقة بهذه القضية" إن حياة هؤلاء الأطفال حتى في الملاجىء لا تفتقر فقط للتمويل ولكن إلى الاهتمام والوعي المجتمعيين.
ويرى بعض المعلقين الذين تناولوا اشكالية الأطفال بلا مأوى أن المطلوب "حل شامل لهؤلاء الأطفال لأن أعدادهم كبيرة ويحتاجون الى دراسة كاملة تتناول الجوانب الثقافية والتربوية والسلوكية بجانب إنشاء مدارس حرفية يتعلمون فيها حرفة تفيدهم وتفيد المجتمع".
وقد يكون المطلوب أيضا إنشاء مؤسسة كبرى تشارك فيها الحكومة ورجال الأعمال وأهل الخير بحيث تجمع هذه الأعداد الضخمة من الأطفال ولا مانع أن يكون ذلك في أحد المشروعات الكبرى مثل توشكى او العوينات وهناك يمكن توفير حياة ومناخ مختلف تحت اشراف مؤسسات ثقافية واجتماعية لإنقاذ هؤلاء الأطفال.
وفيما يؤيد الكاتب والشاعر فاروق جويدة هذه الرؤية لحل مشكلة اطفال الشوارع فان المشكلة تلقي بظلال قاتمة على المستقبل لأن هؤلاء الأطفال هم جزء من مستقبل الوطن وهم رجال الغد.
وإشكالية كهذه بحاجة إلى خطة طريق تصدر عن تفكير عقلاني وروح نقدية ومشاعر إنسانية بعيدا عن الرغبة في الإدانة..فكما تقول الباحثة الجادة نيللي علي:"ما زالت بوصلة اللوم مختلة" مشيرة الى ان البعض يوجه اصبع الاتهام الى اطفال الشوارع لأنهم في الشوارع وليسوا في البيت متجاهلين كل الأسباب التي دفعتهم للشوارع!.
إنها الظاهرة الأليمة بنداءات مخنوقة وشهقات جوع وبرد وخوف!..كما أنها قضية اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى بقدر ما يتطلب حلها إرادة مدعومة بتحرك مجتمعي..إننا إذ شعرنا بالألم حيال قصة "الطفل الراقص مع الكلاب" ينبغي أن نسعى إلى تفعيل ثقافة التراحم ضمن منظومة مؤسسية كفيلة بإنهاء مأساة الأطفال الذين كتب عليهم أن يكونوا أطفالا بلا مأوى.
فلنصنع من نبض القلوب نسغا لأبجدية الرحمة حتى لا يبقى طفل شريد في هذه الأرض الطيبة وحتى لا تسكب سنوات الطفولة في نهر الأحزان..وحتى لا يشرد النهار خارج النهار!!..حان للبراءة أن تعزف لحنها وأن يكون كل أطفالنا كواكب عز وأمل على جبين الوطن.
أرسل تعليقك