تستشعر رواية "سعد سعود" للكاتب محمد السماعنة الأخطار المحدقة بالوطن العربي، وتسعى للتعبير الصادق الجميل عن وقع هذه الأخطار على النخبة من مثقفي هذا الوطن، ويسترجع مؤلفها الزمن السحيق الموغل في القدم، حين كانت الأرض غير مقسمة بين الدول، يصول الإنسان فيها ويجول بكل حرية ودونما وثائق سفر.
يستخدم السماعنة خياله المُحلق والمُجنح، في الوقت الذي كان يؤجج فيه المعارك بين الإنسان والحيوانات المفترسة والطيور الكاسرة والزواحف الشرسة القاتلة، وفي كل الأحوال، كان الإنسان يُروّضها جميعا، وينتصر عليها وعلى عناصر الطبيعة حال غضبها ولا سيما الماء والنار، مثلما ينتصر على القوى الغيبية، والتي كان يعتبر الجن والأرواح الشريرة في طليعتها، وكان الإنسان يشق دربه في الحياة سعيدا، منتصرا، يقصّ الحكايا، ويغني، ويعشق، ويُحب في أجواء آمنة متسامحة مطمئنة.
يربط الروائي بين ذلك الزمن السحيق، وما فيه من قوى غاضبة وغامضة كانت تحاول الفتك بالإنسان، إلى زمننا الحالي، حيث ما زال الإنسان العربي، مضطرا لخوض معارك من نوع جديد، ولكنها هذه المرة مع الذئاب البشرية، ومع الدول الاحتلالية المعادية، ومع بعض القوى الداخلية التي تقف إلى جانب الأعداء.
ورغم التوجه القومي للروائي، إلا أنه خص فلسطين ومعاناة أبنائها داخلها وفي دول العالم، وعلى الحدود والمطارات، بالذكر والتصريح والتلميح، دون السقوط في المباشرة أو التسجيلية.
وكثيرا ما كان السماعنة يخرج على النص، لاسيما حين يتحدث عن الأطفال ذكورا وإناثا: ألعابهم وأحاديثهم وخيالاتهم، وعنهم في المؤسسات التربوية مع أساتذتهم ومعلماتهم، وكأني بالروائي يريد أن يوصل قناعته بأن جيل الشيوخ قد أدى مهمته وولى بين الموت والشيخوخة، وأما جيل الشباب والأطفال، فهو بحاجة إلى أجواء علمية خاصة، تجعل منه جيل المستقبل، جيل التنوير، الذي سينتصر على الأعداء، وفي الوقت نفسه سيحقق للبشرية بعض أحلامها وتطلعاتها.
بعض فصول هذه الرواية، كانت رمزية، وحمالة دلالات وإيحاءات وأوجه، وكانت تنتمي للسرد الغرائبي والعجائبي والفنتازي والمتخيل والمنافي للعقل والمنطق والخارج عن المألوف، وكان الخيال يقوم بدور البطولة أحيانا، وذلك في أثناء بحثه عن "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، مضيفا لهذا الحديث الذي يتحدث عن صفات الجنة بعدا آخر، يتمثل فيما أوجده البشر في الكون من أمور فتاكة وشريرة لم يسبق لمن عاشوا قبلهم أن رأوها أو سمعوا بها أو خطرت على أفئدتهم.
فتصرّ الرواية التي تستعرض عشرات الحكايات التي حاول الشر فيها أن ينتصر، على أن الخير وأهله سينتصرون عليه مهما أطل أمده، لا أقول إن هدف هذه الرواية هو التطهير فحسب، بل إنها تدعو لاستخدام الوحدة والقوة لاستعادة الحقوق، بدل الاتكاء على الحكايات الشعبية والأساطير التي تدّعي أن العدوان إلى زوال مهما طال دون مقاومة، وبدل التحالف مع الأعداء والاستنجاد بهم ليحتلوا المزيد من الأرض لتخليص من تحالفوا معهم من أقربائهم في السلطة كما جرى في الأندلس.
تتألف هذه الرواية من مشاهد ولوحات وقصص وحكايات شعبية بطولية وطرائف وأساطير تخترق بعضها، فهي غير منتظمة في فصول، بل إن بعض القصص تتداخل بينها قصص أخرى ثم تعود أحداث القصص السابقة من جديد للنضوج والاكتمال، وممن كتبوا روايات على هذا النمط على الصعيد المحلي، الروائيان: سالم النحاس، وماجد ذيب غنما، وتنتهي الرواية، لتبقى مشكلة تجنيسها قائمة، إذ لا يمكن التسليم بأنها رواية، لولا أن الروائي صنفها على غلافها بأنها كذلك.
إن القضايا الوطنية الخطيرة التي تناولتها الرواية والتي تضع الإنسان العربي في حالة مجاهدة دائمة بين اللاسلم واللاحرب،لا تعني أنها فقط هي التي شغلت الروائي، ذلك أن "سعد سعود" رواية مشوّقة جذابة، ليس من السهل على القارئ أن يتوقف عن مطالعتها، إذ فيها من الإمتاع والمؤانسة مثلما في "ألف ليلة وليلة" تقريبا دون تأثر بها، بدليل أن هذه الرواية لم تدخل في عوالم الجنس والإثارة، وإن كان وصول الحبيب إلى الحبيبة فيها يحتاج إلى الإجابة على بعض الألغاز، والوصول إلى مناطق خطرة في الكون، واستخدام المردة والجن، وترديد بعض العبارات الخاصة بالسحرة والعرّافين.
وقد أكسب الروائي بعض شخصياته وخاصة سعد سعود صفات خارقة جعلته يوقع مجتمعه في مآزق أوقعت بينه وبينهم عداوات وخصومات، عدا عن تحقيق بعض ما يتطلعون إليه من ترفيه عن النفس.
تعكس الرواية سعة ثقافة مبدعها، بدليل قدرته على التحليق في عوالم متعددة، بعضها في نطاق القدرة البشرية، وبعضها الآخر يحتاج إلى خيال غير عادي حتى يطأها ويصوّر ما بها في مشاهد سينمائية غير عادية ولا واقعية، وبعضها يرد ضمن جمل مسجوعة فيها من علم البديع ما هجره الروائيون منذ زمن، استرجعه الروائي هنا ليقدم لنا عملا خارقا وغير مألوف، رغم استناده للموروث: "وكان أن جاء الليل واسودّ، وأحلك كلّ شيء وانسد، وأخذ الحكيم دهقان الملك 'سيف بن ذي يزن' و'عفاشة' وسار بهما إلى أن وصلوا واديا متسعا عظيما، كله شر، وفيه كر وفر، ودماء متناثرة ووحوش متكاسرة، والطعان فيه دائم، والموت على من فيه قائم".
وكثيرا ما لجأ الروائي إلى السرد بكل ما فيه من قدرة على الوصف ببعديه الخارجي والداخلي، عدا عن لجوئه للمنولوجات، أما القصص والحكايات والخرافات في الرواية، فقد كـُتبت وفق أسلوب السرد المباشر حينا، وضمن الترجمة الذاتية أو الغيرية في أحيان أخرى، ثم اللجوء للحكواتي، ولتيار الوعي في معظم الأحيان.
أما الحوار فهو من اختصاص المسرح، ومع ذلك قدم الروائي عددا من المشاهد والحورات المسرحية، لأنه يعرف أن فن الرواية يتسع للكثير من الأجناس الأدبية والفنية وحتى المعطيات الدينية والحمولات الفكرية.
الشعر العربي في هذه الرواية، جاء للتسلية حينا، وللتعبير عن جسامة الأحداث في أحيان أخرى، ولبث الحماسة والنصح والتحذير والحكمة في أحيان أخرى، ولكنه في كل الأحوال وحتى لو كان صادرا عن لسان الحيوان، فإنه من الشعر العمودي التقليدي
ولدى الحديث عن شخصيات الرواية، فلا بد من الإشارة أن الحيوانات فيها هي رموز للبشرية في حالاتها المختلفة، مثلما وردت سابقا لدى ابن المقفع والجاحظ وغيرهما، أما المارد الذي كان يظهر ويختفي، والجن والأرواح الشريرة فيمكن اعتبارها ضمن شخصيّاتِ الرواية، والتي كانت تضفي عنصري الخوف الرّعب، في قلب القارئ، الأمر الذي يدفعه إلى إكمال القراءة والاستمرار بها حتى الوصول للسلامة أو النهاية غير المحمودة.
ولقد راعى الروائي أعمار قرائه فكتب ضمن الرواية قصصا تندرج ضمن أدب الأطفال.
وتعتبر السخرية من ابرز مقومات هذه الرواية التي سخر مبدعها من أحد شخصياته فقال عنه: "مات تاركا خلفه سبعة اطفال وبقرتين وعشر دجاجات"، وقال على لسان آخر زار ايطاليا بهدف العلاج "إنهمفي ايطاليا أنظف منا بكثير، يعني إذا لففتم الشوارع كلها لا تجدوا ورقة على الأرض، ولا كيس زبالة طاير او ساقط او متدافع، ولا يمكن أن تشاهدوا عيدان الملوخية مرمية على الرصيف، أو قصيب المكانس في ممرات ترابية بين البيوت كما ترونه في قريتنا.. وأقول لك يا ويلك إذا ضربت كلبا في الطريق، فهي في الشوارع تسير مع أصحابها بأدب ولطف" وهنا نتذكر الطيب صالح في روايته موسم الهجرة إلى الشمال.
ومن الطبيعي أن تكون الحبكة في الرواية مفككة، وذلك لكثرة المواقف التي وضع الروائي شخصياته فيها في مآزق تحتاج إلى أمور خارقة لإنقاذها منها، لا سيما وأن الرواية الميثولوجية تعتمد في أحداثها على ما تمارسه القوى الغيبية على البشر، وما تصنعه فيهم من عقد يصعب حلها، ولولا العثور على صندوق الأندلس في الجزء الأخير من الرواية، لظلت معظم أحداثها بعيدة عن الواقعية، الأمر الذي حدث حتى في قصة سيف بن ذي يزن ملك اليمن، وإن كان فيها بعض الأحداث الحقيقية التي تبعث على الفرح، فالطفل الذي يلبس بدلة العروس البيضاء، ويجلس مكانها في غرفة نومها ليفاجئه والده بالقاء القبض عليه متلبسا، والطفل الذي يسرق مسبحة الشيخ التي يطالع عنها الأناشيد الدينية في المناسبات، وذاك الذي سرق كتاب الحكايات من الحكواتي ليحرمه ومستمعيه مما فيها من أحداث طال انتظارها، وذاك الذي مسك ذنب الفرس مما أدى لاستفزازها فتوقع العريس عن ظهرها، وذاك الذي يدعي كذبا انه قلع عيني الضبع قبل اصطياده، بينما عيني الضبع ما زالتا مكانهما، وضمن حكايات الكذابين، يقدم الروائي أيضا قصة من ادعى أن العجل يقرأ ويكتب، وعند التأكد من صحة ذلك، يموت العجل تحت الضرب لأنه لا يستطيع الكلام.
ووسط سواد الحكايات وما فيها من شرور فوق طاقة البشر، تتبدى بعض المناسبات الاجتماعية التي تتيح للروائي أن يرتاح ويريح قرائه، فيسرد بتأن ٍوروية، ما يجري في المضافات والدواوين في القرى والأرياف من أحاديث طريفة، وما يجري في المدارس بين الطلاب والطالبات، والمعلمين والمعلمات، من نهفات، منها ذاك الطالب الذي لا يعرف كيف يربط حذاءه، كما يسرد وقائع وأغاني الأعراس أو الختان، أو يلجأ للوصف للجمالي عبر قوله مثلا: "تينات صفية السواديات والخرتمانيات والموازيات"، والمكان لدى الروائي غير محدود، فالمدى يتسع له، وهو شبيه بالمتاهة، والزمن لديه دائري، يربط بين الماضي السحيق، والحاضر، ويستشرف المستقبل.
ويبلغ النقد السياسي مداه في هذه الرواية، حين يتحدث السماعنة عن مصير الحكواتي أبو اسماعيل: "قيل أكله الاحتلال، وقيل التحق بالمقاومة وصار جنديا في فتح، يحكي لهم عن سيف والزير سالم، وقيل انضم إلى حماس، وقيل انه مات قهرا بعد حرب حزيران، وقيل قطع الاحتلال لسانه خوفا من حكاياته وتأثيرها على الناس، ولكن الخبر اليقين أنه يظهر منذ دخلت الدبابات مدينة نابلس، وداست التاريخ بأقدام جافة من غضب وحقد وكره".
أرسل تعليقك