يعتبر "دوار هيشر" حي سكني كبير، يضم عشرات الآلاف من السكان، ويضم كل الفئات الاجتماعية وكل الشرائح والطبقات، ومع ذلك مازال يسمى"دوار" كما كان في العهود السابقة، عندما لم يكن يسكنه غير بعض العشرات من العائلات، وهو منطقة حية لا تبعد عن العاصمة سوى بعض الكيلومترات، ومع ذلك ستشعر إنها في بلد آخر، هنا يُقال أن الإجرام منتشر، والسرقات خبز يومي، وهنا يُقال أن الشباب الذي كان قد أدمن المخدرات، تغيّر بين عشية وضحاها فأطال اللحي وقصر السراويل وارتدى الأقمصة وصار متزمتا، مطنبا في التدين موغلا في السلفية إلى درجة جعلت أغلبهم يسافرون إلى بؤر التوتر ليقاتلوا مع "داعش" ضد الأنظمة العربية، هنا يتحدثون عن كل المتناقضات،عن الفقر والغنى، عن القوة والضعف،عن الانحراف والتدين وعن كل أنواع السلوكيات.
"مصراليوم" غاصت في أعماق الحي الذي يهابه الجبابرة، ويخشاه الغرباء ،دخلت إلى قلب "دوار هيشر" وتحدثت إلى عدد من الشباب، فوجدت عكس ما يُقال.
الصلاة والخمر
صابر الهمامي "حوات" أي بائع سمك يبلغ من العمر 35 سنة، قبل التحدث الينا بكل ما في صدره من رحابة، فقال إن حياته حرام، وإن الدولة تجبرك إما على ارتكاب المعاصي أو على الانتحار أو على الهجرة إلى "داعش"، ورغم الابتسامات الجميلة التي كان يتصدق بها علينا صابر، إلا أنه فشل في إخفاء ألمه وأوجاعه، فالرجل أمضى من العمر الكثير ومع ذلك لم يتزوّج ولم يستقر ولم يحقق ما كان يحلم به طوال حياته، قال إنه خطب خمس مرات، وفشل في إتمام زواجه في المرات الخمس نتيجة قلة ذات اليد، فكلما حاول بناء حياته والبحث عن مورد رزق إلا ويهدم على أيدي المصالح البلدية.
وتعددت المراحل في حياة صابر الهمامي لينتقل من بائع "تين شوكي" وتم الاستيلاء على وسيلة النقل التي يستعملها لنقل بضاعته ومنع من عرضها، إلى صاحب كشك، هُدم هو ايضا واُتلفت السلع التي فيه ومُنع من إعادة بنائه أو النشاط فيه، ثم في النهاية قرر بيع الأسماك في "عربة" فاستولوا على آلة الوزن والثلج، وهو الشيء الذي جعله يُحاول الانتحار من فرط ما عاشه من ظلم وقهر لتتسبّب محاولة انتحاره في عاهة مستديمة له تزيد من بؤسه.
يقول صابر إنه أكبر إخوته، والده معوّق ووالدته تبيع "خبز الملاوي" وله 4 أخوات وأخ واحد يعمل اليوم "لدى بائع خضر"، وقال إن الحياة القاسية أجبرته على ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة رغم الشهادات التي تحصل عليها ورغم التفوق، فخرج ليساعد والدته على إعالة البنات والطفل الصغير، لكن اعترضته العراقيل والصعوبات إلى درجة جعلته يفقد الرغبة في الحياة.
صابر تحدث الينا كما لو أنه كان ينتظر من يسمعه ويسأله عن طموحه وحياته ورغباته، تحدث وانساب في الحديث دون أن يترك لنا الفرصة لنسأله، وختم بقوله إنه في تونس فقط أن صليّت سجنوك، وإن شربت الخمر سجنوك وتساءل هنا:"ماذا نفعل إذن ؟"وأكد أن الوضع الذي عاشه كان يمكن أن يصنع منه إرهابيا أو سفاحا، لكنه لم ييأس وهو اليوم يعمل في محل لبيع السمك، وقد اخبرنا أنه مستعد لفعل أي شيء من أجل الحصول على ترخيص للبقاء في ذلك المحل بخاصة وأن الجميع يستلطفونه.
رغبة في الانتحار
عادل يبلغ من العمر 45 سنة، متزوج وله ابنة تدرس في البكالوريا وابن له من العمر 15 سنة، وهو بلا عمل، وبلا منزل وبلا أمل، وقال إنه لولا زوجته التي تعينه وتنفق عليه وعلى ابنيه لكان انتحر، وسألناه عن الوضع العام في دوار هيشر وعن الحياة هناك، فقال إنها مقيتة ومميتة وبلا طعم في ظل الفقر والفاقة التي يعيشها، وأخذنا إلى منزله ليرينا كيف يعيش، وللأمانة تألمنا لحال الطفل والطفلة التي ورغم الفقر والحاجة، كانت عزيزة النفس ومرفوعة الهامة، والمنزل كان عبارة عن غرفتين صغيرتين جدا، بلا أثاث ولا تلفاز ولا أية تجهيزات، وبعض الاغطية متناثرة هنا وهناك، وبعض الأثاث القديم المكسور على غرار خزانة الملابس وفراش ضارب في القدم.
كا توجد بعض الأرانب والحمام وكلبين شاركوا العائلة السكن فزادوا الأمر سوءا، فالطفل صاحب الـ15 سنة آثر أن يحدثنا عن كلابه الجائعة قبل أن يحدثنا عن نفسه وعن مستقبله الضبابي وغير المضمون، وقال إنه يعمل ما في وسعه لكي لا تبيت الكلاب جائعة، أما الفتاة فاكتفت بالابتسام وحمد الله مما زاد من ألمنا واحساسنا بصعوبة الحياة وقساوتها في بعض الأحيان، وعادل كان منفعلًا يرينا فاتورة الكهرباء التي فيها 120 دينارًا، متسائلا كيف له أن يدفعها، فزوجته تتحصل على راتب لا يفوق 250 دينًارًا تدفع منها 150 إيجار وتقسط الباقي بين توفير مستلزمات المنزل ومتطلبات الأبناء..وتساءل أيضا أنى له بهذا المبلغ؟ وكيف بلغت الفاتورة هذا المقدار والحال أنه لا توجد لديه آلة غسيل ولا تلفزيون ولا أية تجهيزات من شأنها أن تستهلك الكهرباء.
وسألناه عن الحل وعما يطلب من السلطات، فقال "فقدت الرغبة في العيش ولولا زوجتي كنت سأنتحر "حبل الشريطة موجود والشجرة في المنزل"، فحتى "المرمة" أو أعمال البناء عجزنا عن الالتحاق بها، وكلما بحثت عن عمل إلا ويكتفون بالنظر إلى العنوان الموجود على بطاقة التعريف الوطنية فيجدون "دوار هيشر" ليجيبوك لا لا ، وتخيلوا أن صاحب محل بيع دجاج قبل أن أعمل معه في المحل اشترط أن احضر له بطاقة عدد 3 ليتأكد أنني بلا سوابق عدلية، ولقد بعت كل ما أملك بما في ذلك قارورة الغاز، ولم يعد لي شيء إلا اليأس.."وقال عادل إنه لو يجد من يمنحه المال لينقذ أطفاله فإنه لن يتردد لحظة في قبول أي عرض بما في ذلك الانضمام إلى "داعش" مقابل المال.
فساد على قارعة الطريق
محمد له من العمر 22 سنة توفي والده لتجبره مرارة الحياة وقساوتها على الانقطاع عن الدراسة، فوالدته التي تعمل "معينة" منزلية أو خادمة في المنازل لم تعد تقوى على تحمل مصاريفه هو وإخوته البنات ولهذا كان لا بد أن ينقطع ويبحث عن عمل، وهو إلى حد اليوم يبحث ويدفع مطالبه عساه يلتحق بالجيش الوطني، ويقول محمد"سمعت عن الكثير ممن التحقوا بصفوف "داعش"، واظن أن أغلبهم تحصّل على أموال ليلتحق، ولم يقم بذلك لا عن قناعة ولا عن فهم، كل ما في الأمر أنهم اغروهم بالمال فاستقطبوهم.. "ويشاطره الرأي السيد محمد وهو صاحب محل بقالة قال إنه قضى 37 سنة في هذا الحي وإن نظرة الناس إلى هذه المنطقة لم تتغير رغم أن كل الناس تغيرت والعقليات تغيرت والسلوكات وغيرها، إلا أن تسمية "دوار هيشر" مازالت تثير الرعب وتبعث على الخوف، كما أن الناس مازالوا يعتقدون أن كل ساكني دوار هيشر"مجرمين" و"منحرفين" والحال أن الأمر تغيّر وأن هذا الحي تخرّج منه الأستاذ والطبيب والمهندس والوزير وغيرهم، وقال إن أبناءه كلهم موظفون سامون ومنهم من هو في دولة قطر اليوم، وأضاف محدثنا أن هذا الحي الكبير يضم كل الفئات وكل الشرائح، وأن الفساد الذي كان على قارعة الطريق تغيّر وأصبح بعضه مخفي والبعض الآخر ملغى، وقال الرجل إن شباب هذا الحي يبحث عن الكسب السريع من ذلك يبحثون إما على "الهجرة غير الشرعية" أو السفر إلى سورية وفي الحالتين ربح سريع ومضمون.."
وما لفت انتباهنا في "دوار هيشر" هو كثرة المقاهي، فعدد المقاهي يفوق الخيال وبين المقهى والمقهى يوجد مقهى آخر، فهل هذه هي المشاريع التي تُنفّذ لتنقذ الشباب من الضياع؟ هل بتعدد المقاهي سنحارب البطالة ونقضي عليها؟ فتنتشر حالة من القنوط والضياع ورغبة في الانتحار واستعداد للتوجه إلى الجماعات الإرهابية، ما هذا بحق السماء؟ أين نعيش ؟ وإلى أين سنصل؟ لماذا كل هذا التهميش ؟ ولماذا تغيب الحلول عن فقراء الحال؟ هل على كل الفقراء أن يفقدوا عزيز عليهم أو يقطع رأس أحد افرادها لتلتفت اليه السلطة وتنتشله من الفقر؟ لماذا نترك شبابنا بين أيدي المجهول ونمنح للإرهابيين الفرصة ليستقطبوهم بأموالهم؟ أين برامج بعث المشاريع؟ واين برامج تشجيع الشباب ؟ واين الاستثمارات واستحداث مواطن العمل وتحفيز الشباب وغيرها من الشعارات الرنانة ؟ هل سنكتفي دوما بالكلام وبالنحيب؟
أرسل تعليقك