القاهرة ـ وكالات
أدى أفول نجم المؤسسات الدينية التقليدية إلى صعود الإسلام السياسي وانتشار التشدد في أرجاء العالم، بحسب تعليق حسن حسن، الذي يعتبر أن الأزهر هو آخر معاقل الإسلام العقلاني، وينبغي ألا يسقط في أيدي المتشددين.إن انتشار التطرف في المجتمعات الإسلامية خلال القرون الماضية يمكن إرجاعه إلى مسألة تم تجاهلها بشكل كبير، ألا وهي أفول نجم المؤسسات الدينية ذات التأثير العالمي.فقد أدت سلسلة من الأحداث ذات العواقب الوخيمة إلى تحول مراكز العلم هذه من مؤسسات معتدلة تمتاز بالتعددية وذات تأثير عابر للدول، إلى مؤسسات تركز على القضايا المحلية والداخلية.ومن بين هذه الأحداث إنهاء الخلافة الإسلامية في اسطنبول واحتلال القدس وهيمنة الأيديولوجية الوهابية على مكة والمدينة المنورة، إضافة إلى سيطرة العقيدة الخمينية في قم، التي تعتبر مركز المذهب الشيعي في إيران اليوم، وإضعاف النجف، مركز المذهب الشيعي في العراق اليوم، من خلال أنصار الخميني وحزب البعث.كل هذه الأحداث أدت إلى تراجع تأثير هذه المراكز الدينية في العديد من الأوجه إلى دور إقليمي.
ويبدو أن جامعة الأزهر في مصر، التي تعتبر أعلى سلطة في المذهب السني وآخر معقل للإسلام العقلاني، تسير على نفس الدرب. فالدستور المصري الجديد، الذي تم إقراره من خلال استفتاء شعبي في ديسمبر 2012، يمنح الأزهر بصورة مقننة استقلالية وتأثيراً كمؤسسة استشارية في المسائل التي تتعلق بتوافق بعض القوانين والسياسات مع الشريعة.ومن السخرية أن هذه القوانين ستضر بسمعة الأزهر عالمياً وبموقفه الديني المعتدل، إذ سيتم جرّه من خلال هذه الوظيفة مستقبلاً إلى المشاحنات السياسية والخصومات الدينية المحلية.ولذلك، ستحاول المجموعات الدينية السيطرة على هذا المركز الديني من أجل نشر أيديولوجياتها وتقوية موقفها الديني والسياسي. إذاً، فإن "الاستقلالية" الممنوحة للأزهر لا تعني سيادة مطلقة أو حماية من محاولات الاستحواذ.تم تأسيس الأزهر سنة 972 كمؤسسة تعليم دينية من قبل السلالة الفاطمية الشيعية، بهدف نشر المذهب الإسماعيلي.وبعد ثلاث سنوات، تم تحويل الأزهر إلى جامعة. ومنذ تأسيسه، كان الأزهر جزءاً من شؤون مصر وتحت رقابة الدولة المشددة.
وقد طالب آخر خديوي في مصر، عباس حلمي باشا، بأن ينأى الأزهر بنفسه عن شؤون الدولة السياسية، وأن يتجه بدلاً من ذلك إلى "المعرفة الدينية الصالحة"، خاصة وأنه بالأساس مؤسسة دينية.لقد تم دمج الأزهر في مؤسسات الدولة للمرة الأولى في تاريخه بعد الإطاحة بالملكية في مصر في الثالث والعشرين من يوليو 1952، وآنذاك تم تحديد وظيفته وتمويله من خلال القانون.كما كلّف جمال عبد الناصر الأزهر بـ"تحريك الرأي العام في كل الدول الإسلامية ضد إسرائيل والقوى الاستعمارية". لكن رغم التدخلات السياسية من هذا النوع، إلا أن أياً من الحكام أو قوى الاحتلال لم يحاول تغيير المنهج الأساسي للأزهر، المستمر منذ سيطرة العلماء السنة عليه في القرن الثاني عشر، أو مراجعته.فالحكام الإسلاميون السابقون، من الأيوبيين والمماليك وحتى العثمانيين، كانوا إما قد تركوا الأزهر لإدارة شؤونه بنفسه أو على الأقل لم يتدخلوا في مناهجه التعليمية.أما اليوم، فقد تغير الوضع مع صعود الإسلاميين في مصر، وباتت خطط بعض علماء الدين المتشددين للسيطرة على جامعة الأزهر معروفة.
ففي مقطع فيديو نُشر في ديسمبر/ أيلول 2012، كشف الشيخ ياسر برهامي، نائب رئيس حركة "الدعوة السلفية"، عن خطة لطرد شيخ الأزهر من منصبه دستورياً.
إن هذه المؤسسة هامة للغاية ولا يجب أن تسقط في أيدي المتشددين. وللأزهر فروع في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وإندونيسيا والهند وباكستان وماليزيا والصومال والسودان وفلسطين والكويت، إضافة إلى معاهد أزهرية في العالم الإسلامي بأسره، من موريتانيا إلى الهند.كما أن الأزهر يعتبر ممثلاً موثوقاً به للتسامح والتعايش والحوار، ويبني منهجه على المدرسة الأشعرية، التي نادت في القرن العاشر بالاستدلال على العقائد بالعقل.وبما أن الأزهريين ليسوا منظَّمين بشكل عالمي، فإن دور الأزهر في مصر حالياً قد يضعف الفروع والمعاهد في الدول الأخرى ويجعلها عرضة للتأثيرات المحلية.علاوة على ذلك، فإن الإيديولوجيات الوهابية والسلفية تنتشر بسرعة كبيرة في العالم الإسلامي، بموازاة صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في عدد من دول الشرق الأوسط.وفي دول مثل سوريا، التي تمر حالياً بمرحلة انتقال للسلطة، من المتوقع أن تتعرض المعاهد الأزهرية لتأثير الخطباء والعلماء المقربين من السلفيين.لمدرسة الأشعرية كضامن للاعتداليعتبر الأزهر تقليدياً كسلطة دينية قطباً معاكساً للتشدد والنزعات المذهبية. وعلى مدى عقود من الزمان، كان يُقال عن مجموعات مثل الإخوان المسلمين بأنهم يمثلون "لكن الاعتدال الحقيقي تمثله فعلاً مؤسسات مثل الأزهر. أما الإخوان المسلمون وحلفاؤهم، فهم لا يمثلون أيديولوجية معتدلة وعقلانية، فهم في حقيقة الأمر فرع من الحركة السلفية، والبراغماتية تنحصر فقط في التكتيك الذي يتبعونه.
كما أن سهولة وقوعهم في شرك التشدد والتطرف والمذهبية باتت واضحة للعيان، إذ إن الكثيرين من الإخوان يمثلون وجهات نظر متطرفة ومذهبية، ويدعمون، بالتعاون مع المجموعات المرتبطة بهم، استخدام العنف لتحقيق مآربهم السياسية.من جهة أخرى، فإن الأزهر يمثل مدرسة معتدلة وعقلانية. وإذا نجحت الأيديولوجيات المتشددة في السيطرة على هذه المؤسسة، فإنها ستتدخل على الأرجح في مناهج التدريس، مما سيكون له تبعات عالمية، لاسيما وأن المدرسة الأشعرية هي التي كانت تلجم النزعات المتطرفة في المجتمعات الإسلامية على مدى قرون.وما يثير القلق بشكل خاص هو أن أفول نجم الأزهر جزء من تطور عام يتسم بصعود التشدد الديني.
فمكة والمدينة المنورة كانتا مكانين لنشر التسامح والتعايش، إذ كانتا تضمان حلقات دراسة لكل المذاهب. أما اليوم، فقد سيطر الوهابيون، الذين يتسم تفسيرهم للإسلام بالتشدد وضيق الأفق وعدم قبول أي تيارات تعددية وتقليدية، على حلقات الدراسة تلك.كما أن تطوراً مماثلاً يمكن ملاحظته في النجف وقم ودمشق ومراكز أخرى للعلم، ففي القدس كان يصلي في السابق أفراد ينتمون إلى مذاهب مختلفة سوياً مع من يعتنقون ديانات أخرى.لكن هذه المراكز الدينية أصبحت تركز في الوقت الراهن على الواقع المحلي، وتتعرض لتأثير الأحداث السياسية المحلية، وبالتالي فإن فهمها للدين تحول إلى فهم ضيق الأفق.هذا التوجه المحلي للمؤسسات الإسلامية أدى إلى أزمة دينية حادة، قد تزيد عمقاً إذا استمرت هذه المؤسسات في فقدان المزيد من تأثيرها العالمي. وحتى الآن لم يتم فعل الكثير من أجل إيقاف هذا الأفول.
أرسل تعليقك