القاهرة - مصر اليوم
"انتحار على قضبان المترو".. تكرر العنوان وتكررت معه القصص المأساوية وراء كل حادث ومع كل حادث جديد يزيد عدد الضحايا، ليس من سقطوا وتفتت جثثهم علي القضيب فحسب، ضحايا آخرين شاهدوا الحادث، وصنف ثالث من الضحايا يقف كثيرا في خانة المتهم، ذلك الذي يقود القطار لحظة دهس المنتحر.
وصف صعب، قد يٌقال أنه "قاتل"، وقد يقال إنه "قتل بالخطأ"، ويحمل تصنيف منتحر شهادة براءة لسائق المترو، الذي يعيش فترة صعبة من العذاب، تلك التي رأي فيها جسد يطير أمامه، لا يملك سوي دهسه، لتعلق في ذهنه مشاهد الدماء والأشلاء وتظل كابوسه الذي يطارده.
يبدأ يومه في الخامسة صباحا، حينما يتوجه إلى محطة مترو "الدمرداش" حيث يتجمع زملاءه ليبدأ قيادة قطاره الذي يتسلمه من زميله "السهرة"، يحمل على كتفه حقيبة تشبه حقائب السفر، تحمل كل أغراضه التي قد يحتاجها في يومه، فهو لا يملك رفاهية الخروج لشراء الطعام أو لشرب الشاي، وحتى دخول دورة المياه مرتبط بموعد وترتيب لا تحكمها "الطبيعة"، لكن ينظمها نظام العمل في المترو.
التفاصيل تقريبا واحدة، بين كل سائقي المترو، نظام عمل دقيق للغاية لا يتحمل الخطأ، الاختلاف يكمن في التفاصيل، فهناك رحلة قد تتعرض لمفارقات "ركاب بيلعبوا في إنذار الحريق"، أو "راكب حاول فتح الباب يدويا"، يظل هو في كابينة القيادة منعزلا يتابع كل التفاصيل التي قد تؤثر على عمله، وأذنه تتابع ما يتلقاه من تعليمات عبر اللاسلكي، ويده تدير لوحة القيادة التي تحفظها بكل تفاصيلها التي لا تختلف كثيرا عن حساسية قيادة قطارات السكة الحديد أو الطائرات، محاولا السيطرة على هامش الخطأ البشري، وملاحقته أولا بأول.
ورافقت جريدة "الوطن" المصرية، أحد السائقين في رحلة بالمترو، وسنحت الفرصة لمعايشة ما يعانونه مع من لا يقدرون قيمة الحياة، حين حاولت إحدى الراكبات عبور القضبان للحاق بالمترو الذي بدأ في الحركة بالفعل، هنا اضطر السائق لإطلاق سرينة مرعبة، أتبعها بصياح ظهر رغم ضجيج المحطة "حرام عليكم.. مش كل يوم أشيل قتيل من تحت القطر".
يكاد يبكي وهو يتذكر ذلك الشاب الذي انتحر أمام المترو الذي يقوده، لم يستطع إنقاذه، يسترجع حسن رضوان ما حدث: كان نفسي ألحق أوقف القطار وأنزل أخده من قدامه وأبعده، لكن مش بأيدي، ما شفتوش وهو بيرمي نفسه، لكن حسيت بحاجة تحت العجلات الأمامية".. لم يكن الأمر عاديا، لكنه تعامل معه بصورة عادية "كملت شغلي عادي جدا، أصلنا بقينا خبرة في التعامل مع الحالات دي".
لم ينف رضوان تلك المشاعر السلبية التي انتابته "اتهزيت في البداية فهي روح في النهاية.. ولكني تمالكت نفسي وعدت للعمل"، يؤكد أن مثل هذه الحوادث يتم تلافي آثارها من خلال كشف طبي نفسي وبدني كامل يخضعون له أولا بأول من قبل الهيئة، ويجري علاج المتأثرين من حوادث الانتحار نفسيا "السائق ليس شاهدا على حوادث الانتحار التي يقابلها فقط، لكنه شاهد على كل ما يحدث في المترو.. يؤكد رضوان أن حالات الانتحار يقف السائق فيها محل المتهم لحين خروج تفريغ الكاميرات وإثبات البراءة.
يروي رضوان: البنت اللي انتحرت في محطة ماري جرجس زميلنا كان داخل بسرعة 60 تقريبا وهو بيقلل السرعة عشان يقف نطت قدامه ملحقش يفرمل حتى لو لحق يفرمل كانت هي اتفرمت أصلا".
رحلة النيابة أكثر ما يؤرق السائقين المتهمين مؤقتا في حوادث الانتحار، يؤكد رضوان "بانتظر لحد ما يجيلي استدعاء النيابة، وبروح متأخر عشان ما أواجهش أهل الضحية.. في أغلب الأحوال مش بيبقوا فاهمين إننا مش مسؤولين، والحمد لله بيتم صرفنا من النيابة دون اتهام".
كثير من الحوادث قد تتم في المترو، بعضها انتحار، وأكثرها سوء سلوك، يكفيه رعبا تلك الأقدام التي تلامس حافة الرصيف، مشهد مرعب يواجهه رضوان بإطلاق صافرة المترو قبل دخول المحطة: "شوف الناس دي كلها هي اللي بتأخر المترو، للأسف مفيش توعية، والناس ظلمانا والإعلام ظالمنا، بس أنا ضميري مستريح".
مترو الأنفاق /الانتحار في المترو / انتحا
أرسل تعليقك