القاهرة - مصر اليوم
للفن دوماً دوره المهم في حياة الناس، مهما آمنوا بذلك أو استهانوا، لكنه مؤثر بشكل أو بآخر، ويحاول ــ في حال كونه موجهاً ــ أن يعيد صياغة هذه الحياة وفق مفاهيم واعتقادات يسرّبها إلى وعي وحِس الجمهور. وتعد السينما الوسيلة الفنية الأسرع والأقوى تأثيراً، خاصة وأن القراءة ونوعية الكتب التي من الممكن أن تحفز الوعي تبدو غائبة عن شعب بعيد عن القراءة وعالمها، ويكتفي بمتابعة صفحات التواصل أو برامج التوك شو، التي أيضاً ترعاها الدولة، وتعمل على بث رسائلها من خلال هذه البرامج. ولم تسلم السينما من التلوث بالمناخ السياسي، بل شاركت به وروّجت لأفكاره ومعتقداته على طول الخط، اللهم بعض التجارب التي خرجت عن هذا الإطار، وكان نصيبها إما المنع من العرض لفترة، أو تشويه العمل من خلال مقص الرقيب. وهنا يصبح كل عصر ينتج رجاله وفنانيه المخلصين، المتفانين في خدمة نظام ما وسلطة قائمة، حتى ولو بطريق غير مباشر، هذه الفئات التي ترى وجودها وديمومتها في وجود هذه السلطة أو تلك. هنا تكمن خطورة المسألة، فأي شيء يمكن تقديمه إلى الجماهير، وبالتالي اللعب بعقولهم، هذا بالطبع في صورة لئيمة توحي بتبني خطاب الأغلبية، لكنه في الأساس ترسيب للخوف أكثر من نظام يظن أنه قادر على كل شيء. ويبدو أن فيلم «الأصليين» يجسد سمات ومناخ الوقت الراهن، فالجميع لن يفلت مهما ظن أنه يستطيع، ورغم حالة الاستهجان، إلا أنه يؤصل لها ويبثها في وعي الجمهور، بخلاف الاستناد إلى بعض من أساطير وتخاريف لا ترقى إلى صيغة العمل الفني، فالإبهار البصري لحكاية جوفاء لن يُغني شيئاً، بل يظل فارغاً وعديم المعنى، وحالة من حالات لعبة الـ (ثلاث ورقات) ــ التي يتقنها كل من كاتب الفيلم ومخرجه، فلهما سابقة تدعى فيلم الفيل الأزرق ــ التي يتم من خلالها استغفال الجمهور عن عمد. الفيلم أداء كل من ماجد الكدواني، وخالد الصاوي، ومنة شلبي، وكندة علوش، وهناء الشوربجي، وناهد نصر الله، ومحمد ممدوح، وأحمد فهمي. تصوير أحمد المرسي، ومونتاج أحمد حافظ، وديكور محمد عطية، وملابس ناهد نصر اللوه، موسيقى هشام نزيه، وتأليف أحمد مراد، ومن إخراج مروان حامد.
عن السوبر ماركت والنداهة وزهرة اللوتس
سمير/ماجد الكدواني موظف في أحد البنوك، ويسعى في المشاهد الأولى بين رفوف السوبر ماركت وعربة كبيرة محملة بالبضائع الاستهلاكية، يتم الاستغناء عنه لترشيد النفقات، لكن حياته مرهونة بأقساط الفئة فوق المتوسطة، وهو رب أسرة ولديه شاب وفتاة، وزوجة/كندة علوش تجسد مأساة عصر الاستهلاك السعيد. تأتيه رسالة غامضة عبارة عن هاتف يحمل العديد من الصور ولقطات تمثل مواقف من حياته، هو وحده الذي يعلمها بالطبع، أو هكذا يظن، حتى يتقابل مع مُرسل الهاتف رشدي أباظة/خالد الصاوي، ليخبره أنه مُراقب منذ طفولته، وأنه أي أباظة انتوى ضمه إلى فريق (الأصليين) حُماة الوطن وحُرّاسه. لماذا تم اختياره؟ لن نعرف! من هم هؤلاء؟ لن نعرف! وما نتيجة ذلك على الأحداث ودراما الفيلم؟ من الأفضل أن ننسى. موظف البنك يعمل من خلال تكنولوجيا متقدمة في مراقبة آخرين، على رأسهم ثريا جلال/منة شلبي، الباحثة في الحضارة الفرعونية والتي وجدت الحل في البحث والتقصي، وهو العودة إلى زهرة اللوتس، سر الحضارة الفرعونية، فهي التي كانت تساعد المصري القديم على الخيال، وهي سبب إنتاج هذه الحضارة العظيمة، وقد انتبه المحتل لهذا السر فحرّم زراعتها، وبالتالي فقد المصري خصوبة خياله، وأصبح مثالاً للشخص المدجن، كما تغنى الفيلم بهذه العبارة التي يتناولها المثقفون على المقاهي ليل نهار. ليصبح الأمر في النهاية على غرار جملة لمحمد هنيدي قالها في أحد أفلامه «الخس مهضوم حقه ع السفرة المصرية». ولا ننسى النداهة التي كانت تهمس إلى سمير باسمه طوال طريق الأحراش وهو يسير برفقة رشدي أباظة، لينتهي الأمر بترديد بعض عبارات من قبيل السفسطة، حتى يتلخبط الجمهور أكثر، ولا يعرف (فين السنيورة) كما في لعبة الثلاث ورقات.
لن تفلت أيها الشعب الطيب
«الرب في السما بيراقب عبيده، وإحنا إيه غير بشر بنقلد الفكرة» يا الله، هكذا يمكن صياغة الفكرة العامة للفيلم، فالأمر يبدو طبيعياً، ولن يفلت أحد، مهما حلم أو حاول ــ لا يجب أن ننسى أننا فقدنا اللوتس إلى الأبد ــ وبهذا يتم تسريب فكرة المراقبة الرهيبة، والتي أصبحت أكثر سهولة في عصر التكنولوجيا، والخيال العلمي الضحل غير المؤسَس على أي نظريات، اللهم تهويمات وتخاريف قصص الناشئة الركيكة، والتي تؤمن في أن البديل الفرعوني الموهوم هو الحل للخلاص من كل الموبقات، فالحل في الخيال البعيد.
ما يريده الفيلم هو تثبيت حالة الخوف لدى الجمهور، وأن أي محاولة مصيرها الفشل، وهو بذلك يؤكد السياسة الحالية للنظام الحاكم، ويدّعي كاتب الفيلم أنه لم يصطدم مع الرقابة، بل تبلت الموضوع الشائك في ثقة وصدر رحب! فالنظام نفسه يسعى إلى هذه الأعمال، ينفيها عن نفسه، لكنه في الوقت نفسه يحب بثها بين الناس. ولنعد بالذاكرة قليلاً، فيديوهات التعذيب داخل أقسام الشرطة قبل ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011 كان يتم تسريبها من قِبل رجال الأمن أنفسهم، وهي وإن كانت تدينهم، إلا أن الأمر الأهم هو بث الرعب في قلوب الجميع، فهذا ما يحدث في الداخل، وهكذا نحن أيها القطيع، لكن جرّاء ذلك استفاق ما يسمونه بالقطيع، وفعلوا ما فعلوا، وأسقطوا رأس النظام. هذه الألعاب معروفة سلفاً، أتحدث وأدين وأصنع أفلاماً تبدو من الخارج أنها مع المجموع، وأنها تحاول أن تنتصر للإنسان ــ هكذا الفن ــ لكنها في الحقيقة لا تريد سوى إرهاب المخاليق، كجزء أصيل من المناخ السياسي الذي بارك وجودها، وعملت من خلاله، وكأنها أحد أدواته الهامة والمؤثرة.
التقنية الفارغة
ورغم تهافت وسخف الفكرة والحكاية، إلا أن تقنية التنفيذ بها بعض الطرافة، من تصوير وموسيقى وأداء تمثيلي وخلافه، ولكن ماذا يفيد التكنيك وحده، وهي معضلة يتعلمها الطلاب في سنوات دراستهم الأولى في معهد السينما، فما دلالة ما تفعله، فاللعب بالكاميرا والحركة وما شابه لابد من وجود هدف ضروري لذلك، وإلا كانت حركات بهلوانية جوفاء، فما بالك بفكرة مشكوك فيها من الأساس، جعلت الجمهور يتخبط ويعمه في ما يراه، وسط ضحكات صناع الفيلم، وقد مرروا الرسالة وأدوا الأمانة على أكمل وجه، في صحتكم يا رفاق، فليرتعب الجميع.
أرسل تعليقك