واشنطن ـ وكالات
يؤدي ميشال بوكيه، في فيلمه الأخير «رينوار»، شخصية الفنان الفرنسي أوغوست رينوار في أيامه الأخيرة. نظرته إلى الدنيا تغيرت بعد وفاة زوجته التي أحب (ومات بعدها بأربع سنوات). كان يرسم، يقول الفيلم، ليلتقط جمالات الحياة، وأصبح الآن لا يرى سوى الدكانة، ولا يرغب في أن ينقل ذلك إلى رسوماته. «الرسم»، يقول رينوار في مشهد من الفيلم «يجب أن يكون جميلا ومرحا. لم أعد أرى ذلك في الحياة وسأتوقف». وهو توقف عن رسم ما لم يعد يسره في الحياة عموما إلى أن رحل في عام 1919.
الدور مناسب لأن رينوار توفي عن 74 سنة في حين أن ميشال بوكيه في الثانية والثمانين. هذا الفارق لا يعتبر عنصرا سلبيا كونه لا يتعدى بضع سنوات وميشال بوكيه يتحرك على الشاشة حسب تعامله مع الشخصية وليس تبعا لسنه وشخصيته هو. هو أيضا دور مناسب لأن بوكيه واحد من الممثلين المحترفين الذين خبروا مهنة واحدة في حياتهم هي مهنة التمثيل، ليس لأنه مثل على المسرح واقتبس خبرته فقط، بل لكونه مثل في أكثر من مائة وستة أعمال مصورة (في التلفزيون والسينما) من بينها 64 فيلما.
في السبعينات، كان بوكيه لا يزال فتى يعمل في ركن الأدوار المحددة. إنه، في عدد من أعمال المخرج كلود شابرول، لعب شخصية الأرستقراطي الذي تبدو حياته هادئة على السطح لكن دواخله تتفاعل بدواعي الجريمة. شفته السفلى الرقيقة منحته القدرة على تجسيد التصميم والتحفظ والتوتر معا، وهو في جملة من أفلام البوليس والجريمة، إلى جانب «زوجة خائنة» (من ينساه حين يدرك خيانة زوجته في تحفة شابرول هذه؟)، و«مباشرة قبل حلول الليل» (لشابرول أيضا)، وكلاهما من إنتاج السبعينات المبكرة، ظهر في «بورسالينو» (إخراج جاك ديراي - 1970)، و«الشرطي» (إيف بواسيه - 1970) و«رجلان في المدينة» (جوزيه جيوفاني - 1973). وظهر لاحقا أكثر تنويعا عند تجسيد موزارت في فيلم تلفزيوني بالاسم نفسه، والعجوز توتو في «توتو البطل»، والرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في «ميتران الأخير» (2005).
بوكيه ليس وحيدا في كونه ممثلا تجاوز الثمانين ولا يزال ماضيا في العمل بلا توقف ملحوظ. في العام المنصرم وجدنا جان - لوي ترنتينيان (82 سنة أيضا) يضطلع ببطولة «حب»، ذلك الفيلم الفرنسي الذي دفعه بين المرشحين للأوسكار هذا العام كذلك إيمانويل ريفا (86 سنة). وفي حين أن البعض قد ينظر إلى هذا الفيلم كحالة خاصة، إذ تمحور حول زوجين معمرين، مما يشكل حالة طبيعية للاستعانة بممثلين متقدّمين، فإن ذلك لا ينفي أن كلا من ريفا أو ترنتينيان كان ينتظر في بيته أن يرن هاتفه الخاص منذ سنوات إلى أن تم الاتصال بهما. بالنسبة إلى ريفا كانت انتهت من الظهور في فيلم بعنوان «Le Skylab» من إخراج (الممثلة عادة) جولي دلبي عندما تسلمت إشارة المخرج ميشال هانكه للتمثيل تحت إدارته. وهي الآن تلعب دور الجدة في فيلم لم يعرض بعد من إخراج بريجيت روان عنوانه «نوع إغريقي من المشاكل».
ترنتينيان كان مبتعدا منذ فترة.. فاعتلال صحته في بعض سنوات العقد الأول من القرن الحالي وعدم رضاه عن الأدوار التي أرسلت إليه، جعلاه يتوقف عمليا عن العمل منذ سنة 2004 إلى أن وجد في سيناريو «حب» المادة التي يبحث عنها ومن ثم الجوائز التي نالها عنه ومن بينها جائزة «سيزار» الفرنسية وجائزة الفيلم الأوروبي.
* بيكولي ولونسدال
* الآخرون أفضل حظا لناحية أنهم لم ينقطعوا عن العمل حتى بعد أن تجاوزوا سن التقاعد الوهمي. ميشال بيكولي (86 سنة) أنجز أربعة أعمال في العام الماضي، وهو الآن يصور «مذاق التوت» للمخرج توماس دي تيير. في الواقع نجد بيكولي أكثر المسنين نتاجا كما هو صاحب العدد الأكبر من الأعمال المصورة بـ228 بينها 180 فيلما. كان أول هذه الأفلام «نبوءات» سنة 1945. بعده انطلق بلا توقف إلى اليوم لاعبا أدوارا بالغة السعة والتنوع. لكن ضمن هذه السعة تكمن حقيقة عمله مع عدد كبير من المخرجين بينهم بعض أفضل من في المهنة فرنسيا وعالميا. ففي الخمسينات عمل مع المخرج غير المقدر حقه جان ديلانوي، ومع المخرج الإسباني الشهير لوي بونويل، والفرنسي الذي لا يقل عنه قيمة جان رينوار. هؤلاء عادوا إليه لاحقا بالإضافة إلى ميشال كليمان، جان بيير ملفيل، جان لوك غودار، آلان رينيه، كوستا غافراس والإيطالي ماركو فيراري في الستينات.
من البداية كانت موهبة بيكولي الدرامية والكوميدية واضحة، لكنها ازدادت صقلا وتنوعا عندما ظهر في سلسلة أفلام بونويل مثل «حسناء النهار» أمام كاترين دينوف (1968) و«تريستانا» (1970) و«السحر الخاص للبرجوازيين» (1972) ثم لاحقا في «شبح الحرية» (1974) الذي كان آخر تعاون بين بيكولي وبونويل. تحت إدارة الرومانسي الرائع (والراحل) كلود سوتيه ظهر في تحفته «سيزار وروزالي» في العام ذاته، وطلبه الإسباني كلود ساورا لبطولة «بكاء رجل العصابات». ومؤخرا أعار تجربته للمخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس في «غبار الزمن» (2008) كما للروسي الأصل أوتار أويوسلياني في «حديقة الخريف» (2006). مثله في النشاط ميشال لوندسال الذي وُلد في سنة 1931 وظهر في السينما 143 مرة بدءا من سنة 1965.
إجادته الإنجليزية جعلته مطلوبا في الأفلام غير الفرنسية أيضا، فمثل في فيلم جوزيف لوزاي «مستر كلاين» (1976) وكان شرير فيلم «مونراكر» أحد أكثر أفلام جيمس بوند رواجا، وفي فيلم جان جاك أنو الناطق بالإنجليزية «باسم الوردة» (1986). لكن إرثه موجود بالطبع ضمن السينما الفرنسية والجوائز التي نالها عبر تاريخه كذلك. في العام الماضي شاهدناه يحتل حضورا رائعا في واحد من أفضل أفلام العام وهو «غيبو والظل» الذي اقتبسه المخرج البرتغالي إيمانويل دي أوليفييرا (لا يزال نشطا في سن المائة وأربع سنوات). لوندسال يقوم حاليا بتصوير «ثعلب الشباب» للمخرج العائد بعد انقطاع طويل جان بيير موكي.
* ديلون وبلموندو
* لا يعني ما سبق أنه ليس هناك ممثلون فرنسيون آخرون توقف نشاطهم بسبب السن غالبا أو لعزوفهم في أحوال كثيرة. من هؤلاء نجم السبعينات جان بول بلموندو (79 سنة) الذي توقف عن التمثيل منذ خمس سنوات، وآلان ديلون (77 سنة) الذي عاد العام الماضي للعمل بعد أربع عشرة سنة من آخر ظهور له سنة 1998 (باستثناء إعارة صوته لدور محدود في فيلم كرتوني سنة 2008).
أرسل تعليقك