باريس - مصر اليوم
تحيي "المدرسة العليا للمترجمين" في باريس، هذه السنة، الذكرى الستين لتأسيسها، وتعد هذه المؤسسة ذائعة الصيت أحد أرفع "مصانع" المترجمين شأنًا في العالم، فقد خرّجت، منذ تأسيسها في عام 1957، أجيالاً من خيرة الطلاب الذين يجيدون رقصة التنقل بين اللغات، وأيضًا بعض الدبلوماسيين، منهم سفيرة فرنسا في الكويت.
الاسم المختصر لـ"المدرسة العليا للمترجمين الفوريين والمترجمين"، هو "إيزيت"، ولا يختلف العاملون في المنظمات الدولية أو قصر رئاسة أو وزارة ما، على كفاءة خريجيها؛ إن كلاً منهم جدير بالثقة ويمكن التعويل عليه لإيصال الكلام من مرفأ لغة إلى بر أمان لغة أخرى، سواء في الترجمة الفورية أو التحريرية، والمدرسة، التي هي في الحقيقة معهد عالٍ، تتبع جامعة السوربون الجديدة، وتحرص على تلقين مادتي الترجمة التحريرية والشفهية الفورية وفق أفضل الوسائل التربوية والتأهيلية، وهي تستعين بنخبة من أفضل الأساتذة، أغلبهم يمارسون المهنة، أو مارسوها سابقًا، باحترافية عالية، فمثلاً، عُرف عن البروفسور الراحل دانيال موسكوفيتش، مدير قسم الترجمة الأسبق، أنه كُلف قبل عقود بترجمة موسوعة ألمانية عن الحياكة، فلم يتوانَ عن دخول دورة في الحياكة مع سيدات يتقنّها لكي يتعلم منهن ذلك الفن، الأمر الذي يعينه على ترجمة الموسوعة المطلوبة منه، وقد اختارهن مُسنات لكي يكون على بينة بمصطلحات الحياكة العريقة الرصينة، مثلما كانت الجدات الفرنسيات يتداولنها، وبالتالي تفادي استخدام لغة ركيكة أو مصطلحات دخيلة.
على مدى 60 عامًا، اكتسبت "إيزيت" سمعة دولية رصينة، وفضلًا عن الترجمة التحريرية والفورية، فتحت منذ سنوات صفًا لتعليم الترجمة الفورية بلغة الإشارات للصمّ، وفي نهاية الدراسة (ثلاث سنوات للترجمة وسنتان للترجمة الفورية)، يحصل الطالب على شهادة "ماستر مهني"، وهو ما كان يدعى سابقًا "دبلوم دراسات عليا متخصصة"، وإلى ذلك، تعنى "إيزيت" بالتحضير لشهادتي الماجستير والدكتوراه في علم الترجمة والبحوث المتعلقة بها وبمجالات الألسنية، بجميع ميادينها الفرعية.
يتساءل البعض: لماذا استقرَّت "إيزيت" في جامعة دوفين، في طرف باريس الشمالي الغربي، بمحاذاة غابات بولونيا، بينما هي تابعة للسوربون الواقعة في الدائرة الخامسة، قلب باريس؟ والجواب هو أن مبنى جامعة دوفين، الذي تم تشييده عام 1957، كان مقراً لحلف شمال الأطلسي، (الناتو)، لكن، في عام 1966، انسحبت فرنسا من الحلف بقرار من زعيمها الجنرال شارل ديغول، فانتقل "الناتو" إلى بروكسيل، تاركاً مبناه الباريسي الكبير شاغرًا، وعندها جرى تخصيصه لجامعة باريس 9، أو "باريس دوفين" مثلما سُمّيت لاحقًا، وفي الوقت نفسه، استغلت "إيزيت" تلك الفسحة الجديدة لترك مكانها الضيق في جامعة باريس الجديدة، أو "باريس 3"، والانتقال إلى هذا المبنى الأكثر رحابة، وتشغل مدرسة الترجمة جناحًا في طابقه الثاني، بينما استقرت كلية اللغات الشرقية في الطابق الأول، تحتها تماماً، ويحصل أحياناً أن "يصعد" بعض طلاب اللغات الشرقية، بما فيها العربية، طابقًا للالتحاق بـ"إيزيت"، فالتسجيل في هذه الأخيرة يستلزم الحصول أولاً على شهادة جامعية، ثم اجتياز مسابقة القبول، مع تمني إحراز نتائج عالية تؤهل الطالب للدخول ضمن عدد محدود من المقبولين الجدد، في هذا الفرع اللغوي أو ذاك، ويتعين على المتقدم الإلمام بلغتين أجنبيتين على الأقل، فضلاً عن اللغة الأم.
في السنوات الأخيرة، بلغ العدد الإجمالي لطلاب "إيزيت" وطالباتها نحو 390، للفروع اللغوية والتخصصية كلها، وفي جميع سنوات الدراسة، وجدير بالذكر أن نسبة طالبات "إيزيت" دائمًا أعلى من نسبة زملائهن الطلاب، أما اللغات المعتمدة، فتشمل اللغات الأوروبية تقريباً كلها، إضافة إلى العربية والروسية، مع دورات خاصة للغات أخرى، بشكل استثنائي، في حال توافر بعض الشروط (كالصينية، الكورية، اليابانية، الهندية، التركية،،، إلخ)، وقد يكون من المفيد، أيضاً، إيضاح سبب استخدام مفردة "مدرسة" في الحديث عن تلك المؤسسة التأهيلية التي تندرج في إطار الدراسات العليا، والعليا جداً، تشير كلمة "مدرسة"، في النظام التعليمي الفرنسي، إلى المدرسة الابتدائية الاعتيادية، مثلما هو الحال عندنا، لكن أيضاً إلى "المدارس العليا" التي تؤمِّن أرفع مستويات الدراسة وأعلاها شأناً، وهي أهمّ من الجامعات، وشهاداتها أفضل مهنيًا وأضمن وظيفيًا من الدكتوراه الجامعية، كما يتطلب الدخول إليها الحصول مسبقًا على شهادة جامعية، ثم خوض مسابقات قبول بالغة الصعوبة، لذلك يسمونها مدارس النخبة، وطلابها يشار لهم بالبنان.
لا يندر أن تفضي مهنة الترجمة إلى مسارات أخرى، منها الصحافة والدبلوماسية، بحكم التمكن من لغات عدة، وهذا الأفق الوظيفي يشكل عاملًا مساعدًا وحافزًا قويًا لخوض المشاق في سبيل دخول هذه المدرسة، ومثلاً، وصلت الطالبة اللبنانية ندى اليافي، إحدى خريجات المدرسة في مطلع ثمانينات القرن الماضي، إلى موقع سفيرة فرنسا في الكويت، وكانت الطالبة المتفوقة معتمدة كمترجمة فورية دائمة للعربية في وزارة الخارجية، ولطالما شوهدت على شاشة التلفزيون وهي تترجم بين رؤساء فرنسا ونظرائهم من زعماء الدول العربية، وذلك ما دعاها إلى خوض مسابقات قبول أخرى، في السلك الدبلوماسي هذه المرة، فتم تعيينها قنصلاً عاماً في دبي عام 2007، ثم سفيرة في الكويت عام 2010، وطبعًا، يتذكر طلاب الأقسام المختلفة أساتذتهم المفضلين أثناء سنوات "إيزيت"، ويغدقون عليهم بالمديح والتعبير عن الامتنان، ففيما يخص القسم العربي، يشير الخريجون القدامى إلى أساتذة مثل نعيم بوطانوس وفايز ملص وكلود الخال وجوزيف صايغ (للترجمة) وسلمى فرشخ ومراد بولعراس (للترجمة الفورية)، وذلك غيض من فيض
أرسل تعليقك