غيّب الموت فجر الأربعاء، الفنان المصري القدير جميل راتب، عن عمر يناهز الـ92 عامًا، وأعلن مدير أعماله خبر وفاته ووصيته قبل رحيله، حيث أوصى بألا يقام له عزاء، وأن يتم تجميع جميع صور أعماله والجوائز التي حصل عليها في معرض يحمل أسمه حتى يظل عالقًا في أذهان الجماهير حتى بعد رحيله. وتدهورت حالته الصحية في الفترة الأخيرة، حيث أصبح غير قادر على المشي، بعد معاناته بآلام شديدة في فقرات الظهر، مع إصابته أيضا بهشاشة العظام، ورفضه التام إجراء أي عمليات جراحية بالعمود الفقري، وسافر إلي فرنسا لاستكمال علاجه، مع الغموض التام لحالته الصحية وتطوراتها.
وعاد إلى مصر بعد انتهاء رحلة العلاج، مؤكدًا رغبته في الموت على أرضها، وبعد ذلك تعرض لوعكة صحية فقد على أثرها صوته بشكل نهائي وتم نقله إلى مستشفى "الأنغلو أميركان" في القاهرة حتى وافته المنية. وعندما نتحدث عن أحد رواد الفن المصري وأحد أبرز فنانين مصر لابد من إدراج أسمه، فلم يكن الفنان جميل راتب مجرد فنانًا عاديًا، ولكنه كان يمتلك من الأدوات الفنية ما يجعله فنان من الصعب تكراره أو تقليده، فله طريقة في التحدث خاصة به وحده، وله أسلوب مميز في التعبير عن انفعالاته أثناء تقمصه للعديد من الأدوار.
وخلال مشوار فني طويل دام لأكثر من سبعين عاما، قدم الفنان جميل راتب مجموعة متنوعة من الأدوار، فقدم أدوار الشر ببراعة حتى حصل على لقب "امبراطور الشر السينمائي"، وكذلك قدم الأدوار الكوميدية، والأدوار الاجتماعية، والأدوار الرومانسية بكل تمكن وإبداع.
ميلاده:
ولد الفنان جميل راتب يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1926، ونفى في أحد أحاديثه الصحافية ما تم تداوله على المواقع الإلكترونية بشأن جنسية والدته الفرنسية، وقال عن ذلك "أمي صعيدية المنشأ من محافظة المنيا وهي أبنة شقيق هدى الشعراوي قائدة الحركة النسائية في مصر".
وحصل جميل راتب على التوجيهية في مصر وهي مرحلة توازي المرحلة الثانوية الآن، ثم أنهى دراسته في مدرسة الحقوق الفرنسية، ثم سافر إلي فرنسا من أجل استكمال دراسته هناك، وكانت دراسته في صورة "منحة دراسية" منحته إياها مدرسة السلك السياسي. وعلى الرغم من ذلك لم يكمل راتب دراسته الجامعية وأتجه للتمثيل من فرط حبه له، ولكن في السر دون علم عائلته، مما أدى إلي إيقاف تلك المنحة الدراسية، وبمجرد علم عائلته بذلك قرروا قطع صلتهم به نهائيًا.
ولم يعرف جميل راتب لغة اليأس والاستسلام، فرغم ما مر به من صعاب وعقبات أمام ممارسته للتمثيل، قرر أن يعمل هناك في فرنسا بالعديد من المهن، من أجل الاستمرار في مهنة التمثيل التي يعشقها، فعمل "شيال" في سوق الخضار في فرنسا، ثم عمل في الترجمة، وبعدها كومبارس، ثم مساعد مخرج في فيلم "زيارة السيدة العجوز" لأنطوني كوين والذي قام بتقديمه على المسرح فيما بعد بالاشتراك مع الفنانة الراحلة سناء جميل، واخرجه وانتجه الفنان محمد صبحي.
زواجه من مونيكا مونتيفير:
بعدها تزوج من فتاة فرنسية تدعى "مونيكا مونتيفير" كانت تعمل في التمثيل واعتزلته، وتفرغت للعمل كمديرة إنتاج حتى أصبحت مديرة مسرح "الشانزليزيه"، وحصل على الجنسية الفرنسية، ولم ينجب منها تماما، حيث قرر هو ذلك، ويقول جميل راتب عن هذا في أحد اللقاءات التلفزيونية: "زوجتي مسيحية الديانة وقررنا أن يبقى كلا منا على ديانته، مع احترام كل طرف للأخر، وقررت عدم الإنجاب منها لأسباب عديدة منها مهنة التمثيل غير المستقرة، وكذلك بسبب ديانتها لأنني لو كنت أنجبت منها كانت حتما فضلت أن يكون أبناءنا من الديانة المسيحية، لذا قررت عدم الإنجاب تماما والتركيز في حياتي الفنية، مع استمرار زواجنا بكل احترام وتقدير".
العودة إلي مصر:
وعاد جميل إلى مصر على أمل أن يجد فرصته في التمثيل، وأثناء ممارسته التمثيل في أحد مسرحيات الجامعة شاهده "توجو مزراحي" وهو مخرج وكاتب سيناريو عام 1941، وأعجب بموهبته وطلب منه الاشتراك في فيلم "الفرسان الثلاثة" في مشهد واحد أمام الراحلة ماري منيب، لكن بعد موافقته وقيامه به قامت عائلته بحذف هذا المشهد من العمل.
وكان أول ظهور سينمائي له عام 1946، من خلال فيلم "أنا الشرق" من بطولة الممثلة الفرنسية، كلود جودار، وجورج أبيض، وحسين رياض، وتوفيق الدقن، وبعدها قرر العودة إلى فرنسا مرة أخرى، حتى شاهده الكاتب الفرنسي "أندريه جيد" ونصحه بدراسة فن المسرح في فرنسا، وهو ما فعله راتب بعد ذلك.
وبعد دراسته للمسرح في فرنسا أنضم إلى الفرقة الفرنسية الكوميدية (فرانسيز)، وقدم معهم العديد من العروض المسرحية، وأثناء جولاته مع هذه الفرقة عاد إلى مصر مرة أخرى عام 1952 وقدم معهم مسرحية "الوريث"، وبعدها ذاع سيط جميل راتب وبدأ نجمه يسطع في سماء النجومية، حيث نشرت عنه أحد الجرائد الفرنسية وقتها تقريرًا يشيدون به بأدائه في مسرحية "الوريث" وقالت في تقريرها: "عندما يؤدي (راتب) دوره على الخشبة في مسرحية الوريث فإنه يخطف أنظار الحضور بأدائه القوي وعينيه الحادتين".
واستقر راتب في مصر في فترة السبعينات، وبدأ في الظهور في السينما المصرية، حيث كان فيلم "الصعود إلى الهاوية" نقطة تحول رئيسية في مشواره الفني، حيث حصد عن دوره في هذا العمل جائزة الدولة كأحسن ممثل دور ثانٍ وتسلمها من الرئيس الراحل محمد أنور السادات. وأتخذ المنتجون المصريون منه موقف معاديا نظرا لانتمائه لحزب التجمع حتى حصوله على تلك الجائزة السالفة الذكر فانهالت بعدها عليه العروض والأعمال.
اتجاهه للعالمية:
وعلى الرغم من اشتراكه في الفيلم الأميركي الشهير "لورانس العرب" والذي شارك به أيضا الفنان عمر الشريف، إلا إنه لم يحقق العالمية مثلما حققها الفنان عمر الشريف، وتحدث جميل راتب عن تلك النقطة في أحد أحاديثه الصحافية وقال: "عمر الشريف وصل للعالمية بسبب الكاريزما، بالإضافة إلى إن معظم أعماله كانت في أميركا وهي صاحبة السينما الأكثر انتشارًا". ورشحه المخرج صلاح أبو سيف عام 1975، في فيلم "الكداب"، وبعدها قدم فيلم "الكيف" عام 1985، مع الفنان محمود عبد العزيز، والفنان يحيى الفخراني، والذي يعد من أهم أدواره، حيث أدى دور "سليم البهظ".
وفي عام 1994 بدأت رحلته مع مسلسل "يوميات ونيس" مع الفنان محمد صبحي، حيث قدم دور "أبو الفضل جاد الله" والد ونيس وحقق نجاحًا كبيرًا، وامتدت سلسله يوميات ونيس لثمانٍ أجزاء. وكان لجميل راتب العديد من الآراء الخاصة بالفنانين الذين اشتركوا معه في أعماله فوصف الفنانة الراحلة فاتن حمامة بـ "أم كلثوم التمثيل"، ووصف الفنان يحيى الفخراني بـ "أفضل ممثل في مصر"، وكذلك الفنانة عبلة كامل وصفها بأنها "أفضل ممثلة".
تكريماته وجوائزه:
قدم الفنان جميل راتب خلال مشواره الفني 7 أفلام فرنسية، وثلاثة أفلام تونسية إنتاج فرنسي مصري مشترك، كما قدم ما يقرب عن 67 فيلمًا مصريًا، و55 عملًا دراميًا مصريًا، وحوالي 5 مسرحيات مصرية. وقد تم تكريمه من مهرجان القاهرة السينمائي عن مشواره الفني الطويل، الذي قدم خلاله أفلامًا مصرية وعالمية، وحصل على العديد من التكريمات والجوائز الأخرى، كان أخرها تكريم من مهرجان المسرح التجريبي.
أرسل تعليقك