تجسد مباني الإسكندرية التراثية فصلا هاما وعلامة مميزة تعكس وتتحدث عن طابع (عروس البحر المتوسط) وحضارتها خلال حقب تاريخية عديدة كانت فيها المدينة مركزا لجذب والتقاء الحضارات والثقافات القادمة من أوروبا .
وتتصدر المباني التراثية التي تقابل شاطئ عروس البحر المتوسط بداية من منطقة قلعة قايتباي الأثرية وحتى منطقة الشاطبي بوسط المدينة القائمة الخاصة بالعقارات ذات الطابع المعماري المميز والتي يرجع بناؤها إلى بدايات القرن الماضي .
ويأتي عقار (راقودة) هذا البناء الذي يقع بمنطقة الشاطبي بوسط المدينة ليحتل موقعا مناسبا بين تلك المباني التراثية ليضم ويروي تفاصيل أحداث كثيرة يختلط فيها الماضي والحاضر التراث مع الحضارة ففيه عاش المخرج العالمي يوسف شاهين واستوحى منه أفلامه، كما قدم فيه الفنان المبدع إسماعيل يس عددا من (منولوجاته) وكان مقصدا للجنود الانجليز خلال الخمسينات من القرن الماضي.
وأصبح هذا المبنى حديث العامة والمثقفين كما حاز الخبر الخاص بهدمه اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية وأصدر محافظ الإسكندرية محمد سلطان قرارا بوقف هدم العقار وإجراء تحقيق في هذا الصدد، ودعا إلى انعقاد اجتماع عاجل للجنة العليا للحافظ على التراث .
وثمن الخبراء والنشطاء في مجال الحفاظ على التراث هذا القرار الذي حمى عقار (راقودة) من الهدم وضياع التراث المميز الذي يعد ملكا للبشرية والأجيال القادمة .
ومن جانبه، قال الدكتور إسلام عاصم نقيب المرشديين السياحيين السابق ومسئول العلاقات الخارجية بجمعية التراث والفنون التقليدية إن (راقودة) يمثل طرازا معماريا نادرا عالميا يماثل طابع مبنى (امبير ستات) في نيويورك الذي ظل أطول بناء في العالم طوال 40 عاما، مضيفا أن عقار الإسكندرية الفريد يعد أقدم من العقار الأمريكي .
وأوضح أن تاريخ بناء (راقودة) يرجع إلى الفترة ما بين 1925 و 1930 وهو يمثل الطراز (الارت تكو) ولا يوجد مثيل له بطول كورنيش الإسكندرية سوى مبنى واحد آخر يقع بالقرب من منطقة (بحري) ذات الطابع التراثي المميز.
وأشار عاصم إلى أن المبنى شهد أحداثا مهمة فقد كان مكانا يقصده الجنود الإنجليز للترفيه في فترة الحرب العالمية الثانية، مشددا على أهمية (راقودة) من الناحية التراثية والسياحية والأثرية فهو يمثل محطة مهمة بالنسبة لجولات الأفواج السياح الأجانب، كما أنه يقع على مقربة من منطقة الشاطبي الأثرية التي تضم أقدم المقابر الأثرية، مؤكدا أن الخرائط تؤكد أن هناك آثارا أسفل العقار.
وبدوره، أكد وليد منصور الحاصل على ماجستير في مجال البيئة والتنمية المستدامة وأول من أطلق مبادرة للحافظ على عقار (راقودة) من الهدم، أن الدولة المصرية تنفذ خطوات جادة وتشهد تطورا ملحوظا في مسار الحفاظ على التراث خاصة خلال الفترة الماضية.
ووصف منصور قرار محافظ الإسكندرية بوقف هدم عقار (راقودة) بأنه "خطوة غير مسبوقة " واستجابته لمطالب المواطنين بالحفاظ على هذا التراث المهم.
وقال "أهمية (راقودة) إنه منزل (يوسف شاهين) وفيه شهد الكثير من الأحداث التي كانت ملهما له في الكثير من أفلامه، بل وقدم فيه الفنان الكبير (إسماعيل يس) الكثير من أعماله و(منولوجاته) في فترة بين خمسينات وستينات القرن الماضي، متسائلا "ألا يستحق كل هذا التراث أن يبقي ويظل شاهدا على أحداث مهمة قدمتها رموز الثقافة المصرية؟".
ودعا إلى ضرورة استثمار هذا التراث الذي لا يقدر بثمن وترميمه بما يحافظ عليه وإقامة متحف يضم إبداعات كبار الفنانين المصريين من أبناء الإسكندرية ومنهم يوسف شاهين وبيرم التونسي وسيد درويش، مقترحا أن يشيد المستثمرون هذا المتحف الذي يمكن أن يحقق دخلا كبيرا ويجذب السياحة الداخلية.
وطالب منصور بتطبيق تجارب الدول المتقدمة في الحفاظ على التراث والآثار وذكر في هذا الصدد القوانين الخاصة بالحفاظ على التراث الألماني والبريطاني التي تمنع هدم المباني القديمة وتطالب بإعادة أي بناء- حتي وإن كان طوبة واحدة هي المتبقية منه- إلى أصله، منوها بضرورة الحفاظ على حق الأجيال المقبلة في معرفة تراثهم وحضارتهم.
وأشار منصور إلى أن الارتباط بالتراث والثقافة والحضارة يخلق الهوية ويتصدى للعنف والإرهاب كما أن التراث يعد الرابط الحقيقي بين الشعوب عالميا.
وأكد ضرورة إصدار التشريعات والقوانين التي تنظم العمل في مجال التراث والاستثمار فيه وتحقق الترابط بين المجتمع وحضارته.
وفي هذا السياق، أكد مدير عام الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالإسكندرية محمد متولي أهمية عقار راقودة وطابعه المعماري المميز، قائلا إن العقار ليس مسجلا ضمن عداد الآثار ولكنه يمثل قيمة تراثية وحضارية.
ودعا إلى ضرورة اجتماع اللجنة العليا للحفاظ على التراث قبل إصدار أي قرار يتعلق بالمباني التراثية ذات الطابع المعماري المميز لتقرير ما يجب اتخاذه من إجراءات بشأنها الحفاظ على الحضارة والتراث المميز للإسكندرية (عروس البحر المتوسط).
أرسل تعليقك